-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المعجزة الأخلاقية

المعجزة الأخلاقية

قرأت ماجاء في جريدة “الشروق اليومي”، (بتاريخ 3 – 3 – 2009، ص23) منسوبا إلى الأخت زهور ونيسي، وأود أن أقف عند بعض ماجاء في حديثها لأوضحه حتى لايُحدِث التباسا في عقول بعض القراء عندما يقرأونه.

  • وحتى لا يتخذ منه ذو النفوس العليلة والعقول الكليلة تُكَّأة يتوكّأون عليها في تبرير ما لا يبرر، مَثَلُهُم في ذلك كمثل المبررين عدم صلاتهم بقوله سبحانه وتعالى: “يا أيها الذين آمنوا لاتقربوا الصلاة..”، وقوله عز وجل: “فويل للمصلين..”.
  • ولكنني قبل أو أوضح ما يجب توضيحه أحب أن أشكر الأخت زهور على اعترافها بفضل الحركة الإصلاحية بقيادة الإمام عبد الحميد ابن باديس على الجزائر والجزائرين – ذكورا وإناثا- الذين بعثتهم من سباتهم، وأخرجتهم من ظلمات الجهل والخرافة إلى نور العلم والحقيقة، حيث كانت في هذا الاعتراف أشجع من بعض الذُكْران الذين تنكَّروا لفضل جمعية العلماء عليهم، ولم يكتفوا بالتنكّر، بل تحولوا من المهتدين بها إلى المعتدين عليها، كل ذلك إرضاء لـ”الطلقاء الجدد”، الذين وصلوا إلى المراكز العليا بعدما تملقوا وتسلقوا، فكان أولئك المتنكرون للجمعية كذلك اللئيم الذي قابل الكرم باللؤم، والفضل بالجحود، فقال فيه الشاعر، تنديدا بخسّته، وتشنيعا بفعلته:
  •  
  • أعلّمه الرماية كل يوم      فلما اشتد ساعده رماني
  • وكم علمته نظم القوافي   فلما قال قافية هجاني
  •  
  • كما أشكرها على تخطئة الذين حسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله، فأوقفوا جمعية العلماء في سنة 1962 عن النشاط وإرشاد المجتمع الجزائري وتوجيهه، بعدما ظنوا- لجهلهم- أن تِبْرَ جمعية العلماء كتُرْبِ غيرها، فبرهنوا بذلك التوقيف، وصدّهم لمن نصحوهم بالإبقاء على جمعية العلماء؛ على أن أنظارهم قصيرة لاتتجاوز أنوفهم، ولو كانت هذه الأنوف طويلة كأنف ابن حرب الذي وصفه شاعر بقوله:
  •  
  • لك أنف يا ابن حرب     أنفت منه الأنوف
  • أنت في القدس تصلي   وهو بالبيت يطوف
  •  
  • لقد ذكرت الأخت زهور أن الإمام “ابن باديس هو أول من دعا إلى تعليم البنات”، وتأكيدا لما ذكرت أورد شهادة شاهد معاصر على ذلك وهو الشيخ محمد الصالح ابن عتيق، وهو أحد تلاميذ الإمام ابن باديس، الذي كتب قائلا: “من جرأة الإمام ابن باديس -رحمه الله- تعليم النساء، وهي المنطقة التي كانت محرمة تحريما مغلظا على من يحاول أن يصلح من شأنها أو يخفف من وطأتها.. وإني لأذكر مرة إذ وجدته جالسا بأحد الدكاكين فاستدعاني إلى الجلوس، وما ان استقر بي المجلس حتى وجّه إليّ هذا السؤال: ماقولك في فتح دروس بالجامع الأخضر للنساء؟
  • فقلت: لايخلو الحال من صعاب يا أستاذ، فقال: أعلم هذا، ثم التفت إلى أحد الإخوان الجالسين -وكان مسنا وطالب علم، وهو الشيخ محمد زغليش- وقال له: وأنت ماذا ترى؟ فأجابه: الأمر خَطِر، والإقدام عليه مجازفة، فالبلاد لم تعهد هذا، والأعداء ينتهزونها فرصة ويؤلبون علينا العامة والدهماء. فانتفض الشيخ وقال: إن الدين جاء للرجال والنساء على السواء، وإن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد سوّى بينهما في التبليغ، فلماذا لانقتدي به؟ ثم قال: أنا لست من الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، بل من الذين قالوا آمنا به كل من عند ربنا، وسأفعل إن شاء الله، وليكن مايكون، أنا أعلم أنهم سيقولون: إن ابن باديس رمانا بالداهية، وأراد أن يجرح الأمة في كرامتها، وسيجيبهم الآخرون، ويشتد الخلاف، ويحتدم الجدال بين المنتقدين والمحبّذين، وأريد أن تتحرك هذه الحجارة ولو توطأ رقبتي(1)”. وقد شاء القدر أن يكون آخر درس للإمام ابن باديس للنساء، وذلك يوم 3 ربيع الأول 1359، أي قبل أن يأتيه اليقين بخمسة أيام، حسب ماجاء في رسالة بعثها الشيخ أحمد بوشمال إلى الشيخ أحمد بن بوزيد قصيبة(2).
  • إن الأمر الذي أحببت أن أوضحه، والإيهام الذي وددت أن أرفعه هو ما جاء في قول الأخت زهور وهو: “في هذه المدارس الإصلاحية كنا نجلس إلى جانب الأولاد بدون عقدة، وكانت الحصانة هي الأخلاق وحسن التربية“.
  • قد يفهم القارىء غير المطّلع أن التلاميذات كن يجلسن إلى جانب التلاميذ، الكتف للكتف، والقدم للقدم، وهذا -حسب علمي- ما لم يكن، فأنا أيضا من تلاميذ المدرسة الإصلاحية في مدينة جيجل، وكنا ندرس في قسم واحد، ولكن البنات في جهة من القسم، والذكور في الجهة الأخرى، وقد هاتفت بعض معلمي مدارس جمعية العلماء فأكدوا لي أن المعمول به هو أن تجلس الفتيات في جهة من القسم والفتيان في الجهة الأخرى.
  • وقد دفعني إلى هذا التوضيح أن دعاة “التفاف الساق بالساق” يحتجون على “مشروعية” دعوتهم بما فعلته جمعية العلماء، حتى إن أحدهم جمح به الخيال، فزعم أن جمعية العلماء “لم تنشىء مدارس خاصة للبنات وأخرى للصبيان، أسوة بما كان متبعا في المدارس الحكومية (أي الفرنسية) أو وفقا لما هو متبع حتى اليوم لدى الجمعيات ذات الطابع الديني في الوطن العربي؛ وإنما شجعت الجمعية منذ البدء التعليم المختلط، وهذه الظاهرة جديرة بالاعتبار(3)”.
  • إن الحقيقة هي أن جمعية العلماء كانت مكرهة على ذلك الاختلاط، لأنها لم تكن تملك الإمكانات المادية، ولم يكن لها العدد الكافي من الإطارات التي تسمح لها بتخصيص مدارس للبنات، فكانت -الجمعية- بين اختيارين:
  • ) إما أن تحرم البنات من التعليم لعجزها عن توفير مدارس خاصة لهن.
  • ) وإما أن تسمح لهن بالتعلم مع البنين في أقسام واحدة، مع التشدد في المراقبة الأخلاقية، والصرامة في العقاب لمن زاغ بصره وانفلت لسانه، وهذا هو الحل الذي تبنته جمعية العلماء، مرتكبة أخف الضررين، خاصة أن خطر الانزلاق الخلقي كان مستحيلا بسبب التشدد في المراقبة من جهة، ولصغر أعمار التلاميذ والتلميذات من جهة أخرى، فهذا “الاختلاط” لم يكن إلا في التعليم الابتدائي، فلما أسست الجمعية معهد الإمام ابن باديس في قسنطينة لم نسمح للبنات بدخوله، لأن الجميع – ذكرانا وإناثا- قد بلغوا -وبلغن- الحلم، ولهذا بدأ الإمام محمد البشير الإبراهيمي يفكر ويخطط لإنشاء “معهد خاص بالبنات المسلمات اللاتي شببن عن طوق التعليم الابتدائي، وأصبحن يطلبن المزيد إلحافا، وأصبحنا نلاقي من إلحافهن رهقا(4)”، كما دعا الإمام الابراهيمي جامعة الدول العربية لكي تبني دارا للمعلمين وأخرى للمعلمات في الجزائر (5).
  •  
  • وهناك حقيقة أخرى، وهي أن جمعية العلماء كانت تنشىء وتؤسس مدارس خاصة بالبنات كلما توافرت لها الإمكانات المادية والإطارات التعليمية. ومن المدارس الخاصة بالبنات التي أنشأتها الجمعية:
  •  
  • ) المدرسة الصادقية (في حي المدنية) (البصائر. ع.93. في 31 أكتوبر 1949). 
  • ) مدرسة الحياة للبنات في جيجل. (البصائر ع. 149 في 2 أفريل 1951). 
  • ) مدرسة خديجة أم المؤمنين بسكيكدة (البصائر.ع. 187 في 2 أفريل 1952). 
  • ) مدرسة خديجة أم المؤمنين بسكيكدة (البصائر. ع. 227. في 24 أفريل 1953). وهناك مدرسة للبنات في مدينة المدية، وخطط لأخرى في مدينة ندرومة.
  •  
  • فسماح جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بتعليم البنات في قسم واحد مع الذكور لم تكن فيه باغية ولا عادية، ولكنها كانت مضطرة، و “من اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه”. 
  • وقد تشاءمت فرنسا من إقدام جمعية العلماء -الفقهية في الدين، الحريصة على الشرف- على فتح أبواب المدارس أمام الفتاة المسلمة حيث ستتربى على مبادىء الدين وأخلاقه، فتبني بيتها عندما تصير زوجا، وتنشىء أبناءها عندما تصبح أما على تلك المبادىء والقيم، وذلك ما يجعل فرنسا لاتقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، لأنها لا تود أن ترى الفتاة المسلمة إلا خادمة في بيت فرنسي، أو وسيلة لإشاعة الفاحشة في المجتمع الجزائري المسلم..، ولهذا حرّكت فرنسا أحد أذنابها لإثارة “الغبار حول تعليم جمعية العلماء للبنت المسلمة في مدارسها، وترميها إفكا وزورا بالعظائم.. وتتصنع الغيرة على أعراض المسلمات أن تنتهك، وعن الحرمات الإسلامية أن تهان…”. وقد تصدى الإمام الابراهيمي بقلمه الساحر، وفكره الباهر لهذه الدعاية فأخرس المأمور والآمر(6). 
  • أكرر شكري للأخت زهور على اعترافها بفضل الحركة الإصلاحية، وجدالها عنها، فصدّقت بذلك المثل الجزائري القائل: “عيشة خير من عياش”.
  •  
  • —————-
  •  
  • 1) محمد الصالح ابن عتيق: أحداث ومواقف في مجال الدعوة الإصلاحية.. صص 168 169.
  • 2) انظر نص الرسالة وصورتها في: محمد الهادي الحسني: أشعة الشروق. صص 163 165 
  • 3) أحمد الخطيب: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين… ص200 
  • 4) آثار الإمام الإبراهيمي ج2 ص352 
  • 5) المرجع نفسه ج4. ص281 
  • 6) المرجع نفسه ج3 صص 383 385
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!