-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المقاولاتية الفكرية بين الأثر والترف!  

د. عمر هارون
  • 882
  • 0
المقاولاتية الفكرية بين الأثر والترف!  

الحضارة هي التي تلد منتجاتها، بهذه العبارة عرّف مالك بن نبي أكبر مشكلة عرفتها البشرية في كتابه “شروط النهضة”، ليواصل فيلسوف الحضارة مسترسلا أن العالم الإسلامي دخل صيدلية الغرب باحثا عن الحضارة، لكنه لم يجد لا مرضه ولا نوعية دوائه، مما جعله في أحسن الأحوال لا يأخذ إلا المسكنات لأمراض استفحلت في جسده.

ويرى بن نبي أنه من العبث أن نحاول الفصل بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية التي نريد تكوينها، لكن في المقابل لا نستطيع أن نستورد من الغرب كل آلياته التي بلغها، لأنها لا توافق بعدنا الفكري، فلن نستطيع أن نؤثر على عالم الأشخاص بالمنتجات الكيفية سواء تعلق الأمر بروح الحضارة، وأفكارها، وثرواتها الذاتية، وأذواقها وغيرها، فهي منتجات خاصة بتلك المجتمعات لا يمكن لنا كمسلمين أن نستعملها إلا استهلاكا، لكن هذا لن يبني حضارة، مما جعلنا مجبرين على البحث عن آلياتنا ومنتجاتنا الخاصة بنا، الحضارة لا تقوم على التكديس من خلال استيراد كل ما تنتجه الحضارات الأخرى، بل الحضارة تقوم على بناء منتجاتها الخاصة، والتي لا تكون إلا بتركيب وتفاعل الإنسان، والتراب، والوقت.

ومن المستحيل أن نتصور نهضة دون العامل البشري، كما يستحيل أن تحدث نهضة لمجرد تكديسه مع باقي  العوامل، تماما كما هو حال الباحث أو  الأكاديمي فهمها بلغت الكتب التي يقتنيها والبحوث التي يجمعها لن يستطيع أن يكون باحثا ناجحا  ما لم يستطع أن يستوعب ما تحتويه تلك الكتب فوضعها على الرفوف لا يعني أبدا فهم معناها، كما أن إنتاج هذا الباحث لن يكون قادرا على إفادة المجتمع إلا إذا ارتبط إنتاجه بحاجات مجتمعه ومتطلباته، فإذا كان الباحث ومن ورائه المتلقي مهووسا بالمجتمعات الأخرى، يكتب وينتج لها وحسبها، فهذا بالتأكيد عملٌ يجعله تابعا مسيَّرا غير مخيَّر، بل قد يتحول إلى معول هدم.

إن وجود إنسان واعي وعارف بخبايا ما يحتاجه وما يريده يجعله قادرا على صنع المعجزات بما يملك من مواد وموارد مختلفة، وهو ما جعل مالك بن نبي يصف المقومات المادية للنهضة بالتراب، وهذا بغرض اختصار العامل المادي الموجود في الطبيعة، لكنه ربطه بوعي الإنسان السويّ المثقف العارف والعازم للوصول إلى غايات وأهداف واضحة ومسطرة ومخطط لها باستعمال الوقت بشكل فعال، فكل الناس تعيش بأيام من 24 ساعة وبسبعة أيام في الأسبوع، لكن تختلف إنجازاتهم وتتباين حسب قدرتهم على الاستفادة من الوقت وتسخيره لخدمة أغراضهم، كما أن الوقت هو الكفيل بالوصول إلى الأهداف المسطرة، يضاف إلى ذلك أن تغيير سلوكيات المجتمعات الداخلة في مشروع الحضارة يتطلب جهدا ووقتا، وهو الأمر الذي يجب أن لا نغفله، فلكل هدف وسائل ومدة زمنية لتحقيه.

إن الأمة الإسلامية تملك الإنسان والتراب وكانت و لا تزال تملك الوقت، لكنها فقدت العامل الرئيسي في النهضة وصنع الحضارة؛ إنه كما لخصه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال ن”حن قوم أعزنا الله بالإسلام فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله”، وهو العنصر الذي اعتبره مالك بن نبي المفعل الحقيقي لتفاعل مكوِّنات معادلة الحضارة.

إن ابتعادنا عن تطوير عالم الأفكار  لدى المسلم، من خلال البحث والتنقيب عن الأفكار الأصيلة جعله مجرد مقلِّد لعالم الأشياء لدى المستعمِر، وهو ما انسحب حتى على النخبة الاقتصادية المسلمة حسب فيلسوف الحضارة، فلم يخرج هؤلاء المنظرون من ثنائية الاشتراكية والليبرالية كوصفات تم تبنيها من أجل محاولة بناء اقتصاد قوي، لكنها لم تأخذ بعين الاعتبار المعادلة الاجتماعية للشعوب المسلمة، وهو ما جعلها تراوح مكانها اقتصاديا بفشل ذريع يحاكي فشل شاخت الذي نهض بالاقتصاد الألماني وفشل حين وصل إلى الاقتصاد الاندونيسي، لهذا فإن مالك بن نبي يرى أن أساس الديناميكية الاقتصادية هو الجوهر الاجتماعي، والذي لن يتحرك إلا بتفعيل الهندسة المالية الإسلامية.

إن وجود إنسان واعي وعارف بخبايا ما يحتاجه وما يريده يجعله قادرا على صنع المعجزات بما يملك من مواد وموارد مختلفة، وهو ما جعل مالك بن نبي يصف المقومات المادية للنهضة بالتراب، وهذا بغرض اختصار العامل المادي الموجود في الطبيعة، لكنه ربطه بوعي الإنسان السويّ المثقف العارف والعازم للوصول إلى غايات وأهداف واضحة ومسطرة ومخطط لها باستعمال الوقت بشكل فعَّال.

لقد أقر بن نبي بعجز  المفكرين المسلمين على التأقلم مع متطلبات عصرهم، وعدم خوضهم في بناء نظرية فكرية صالحة لواقع ملائم للمجتمع الإسلامي، لتشبُّعهم بما عبّر عنه بن نبي بمصطلح “الزهد”، ويرى أن هذا المفهوم يعبِّر بدقة عن عمق العقلية الشرقية المسلمة، التي ترى أن التوكل هو ترك كل شيء للخالق، دون التفكير  في الأخذ بالأسباب، متوهمين أن النصر  يأتي لأنهم مسلمون لا أكثر، عكس المنفعة الرأسمالية والحاجة الشيوعية الماركسية التي اشتغل أصحابُها لتطويرها ودعمها، الأمر الذي خلق تنافرا اجتماعيا، كما سماه مالك بن نبي بين الزهد الإسلامي والمنفعة الرأسمالية والحاجة الماركسية، حالة جعلت الاستقلالية الاقتصادية حلما بعيد المنال في الدول المستقلة سياسيا، ولعل عدم التقدير الجيد لقيمة الوقت لدى الدول المستقلة حديثا زاد الطين بلة، وخلق هوة أوسع بين النهضة وإنتاج منتجات الحضارة، ولعل هذا ما جعله يقول في كتابه المسلم في عالم الاقتصاد:

“… أي فن اجتماعي أو مبدأ اقتصادي لا يمكن أن يكون صادقا إلا إذا وجد في وضع لا يتعارض فيه مع عناصر المعادلة الشخصية السائدة في الوسط الذي يراد تطبيقه فيه…”،

ويؤكد في هذا السياق أن نجاح الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي ارتبطت بشكل وثيق في التوفيق بين  قدرة لينين على غرس الفكر في ضمير طبقات الشعب وعلم ماركس، الأمر الذي ولَّد ما شبه الصدمة الاقتصادية.

إن أكبر مشكلة عانت منها الأمة هي عدم استيعابها للمشكلة الاقتصادية، وهو ما جعل المجتمعات المتخلّفة عامة والمسلمة خاصة معرَّضة لما سماه مالك بن نبي بـ”الصبيانية الاقتصادية” (economisme)  وهي فكرة حاول بن نبي أن يعبّر بها على حالة الاستهلاك للأشياء المنتَجة من الحضارة الغربية، ودفع تكاليف هذه الأشياء من تصدير المواد الأولية، فلا يمكن لمجتمع أن يصنع نهضته الاقتصادية بالتراب والإنسان والوقت فقط، إن لم يعمد إلى تغيير العامل الثقافي الذي يعتبر العامل الديني من أهمِّ محرِّكاته، بعيدا عن الاباحية الرأسمالية، والشيوعية الإشتراكية أو محاولة أسلمتهما، إن الكثير من مما سبق جعله يقرّ  أن: “… الإمكان الاجتماعي هو الذي يقرر مصير الشعوب والمجتمعات والدول…”.

والعالم الإسلامي ليس بيده أن يغيّر أوضاعه الاقتصادية إلا بقدر ما يطبق خطة تنمية تغيّر  أبعاده النفسية وتخلصه من تركة عصر ما بعد الموحدين، وهو ما يوجب على المجتمع أن  يجعل الإنسان محورا لعملية التطوير للحصول على النهضة الاقتصادية التي نرغب بها.

إن  أهم ما قدمه مالك بن نبي هو منهاج لغربلة الأفكار التي يستطيع المثقف العثور عليها أو التعثر  فيها طيلة حياته، فوضع مجموع من الضوابط لحماية العقل من الاستغفال  وفق منهج علمي جدي واضح، منهجٌ طالب بعده كل من قرأ له وآمن به أن يبحث عن الأفكار الحية المثمرة وإن كانت عند العدوّ كدلالة على الانفتاح ونبذ الانغلاق، إلا أن كل من يقرأ لمالك بن نبي يعرف جيدا أنه شدد على دور الفكرة الدينية الأصيلة وقوتها في مزج متغيرات معادلة الحضارة وقيامها، وكأنه بما قدَّم توقع وصول الأمة الإسلامية إلى مزلق تتعارض فيه طوائفه إلى درجة التنابز وحتى التقاتل، والحل في هذه المرحلة العودة إلى المعايير التي أبتكرها بن نبي من أجل تصنيف هذه الأفكار حسب فعاليتها وقدرتها على التطبيق.

إن فيلسوف الحضارة أسَّس لإطار عامّ شامل غير إقصائي منفتح قادر على احتضان كل ألوان الطيف تحت ظل معاييره، لكن أتباعه قصَّروا في حق منهجه وفكره بشكل غير مسبوق.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!