-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المُربّي طيْبي الجمعي.. عُنوان الطّيبة والجمع

المُربّي طيْبي الجمعي.. عُنوان الطّيبة والجمع

عندما كانت الأيدي التي شاركت في مواراة الجثمان الطاهر للفقيد المربي طيبي الجمعي تتأهب لتنظيف الرفوش التي رفشت التربة الناعمة وهالتها على قبره، بدأ قرص الشمس ينزلق رويدا رويدا نحو المغيب، ويتهادى صوب الاستتار والتخفي، وشرع وهجه الحارق في التبدد والانطفاء. وكنت أرى، وأنا واقف وسط المشيّعين الذين اكتظت بهم مقبرة “سيدي المسعود” ببلدة أمدوكال، أن هذه المصادفة حضرت للإشارة إلى أن قنديلا من قناديل بلدة أمدوكال التاريخية الذي أضاء زوايا دروبها وواحتها، وألمع صورها، وأسمع صوتها إلى الناس عاليا قد نفد زيته وحانت لحظة انطفائه.

بالرغم من أن أمدوكال بلدة طرفية صغيرة وشبه معزولة، إلا أنها ظلت منجما مدرًّا للرجال؛ فقد أنجبت في القديم وفي زمننا المعاصر رجالا أفذاذا وأئمة وعلماء منهم من تجاوزت سمعتهم حدود القطر الجزائري. وحتى في أشد الأوقات صعوبة التي مرّت بها الجزائر، وهي فترة الثورة التحريرية، فإنها قدمت أبطالا صناديد تحمّلوا متاعب الجهاد في الولاية السادسة بشكل أخص، وكتبوا صفحات نيّرة من الجهاد البطولي الخارق الذي لا ينسى.

لم يتنكر المربي طيبي الجمعي لبلدته التي عشق أرضها وهواءها وواحتها، وأحب أناسيها كبارا وصغارا، رجالا ونساء، كما فعل بعض أبنائها الذين هجروها مرغمين نحو المدن الكبرى طلبا للقمة العيش، أو بحثا عن الاستزادة في طلب العلم، وقطعوا حبل الوصل معها. وإنما ظل يتردد عليها عندما ساقته المقادير للدراسة أو للاشتغال بعيدا عنها. وبمجرد أن ذهب إلى التقاعد، عاد إليها بشكل نهائي رغم أنه كان في إمكانه أن يعيش في أي مدينة كبرى أخرى. واستقر فيها وفي قلبه الكبير واجبٌ رأى أن يؤديه نحوها. وهو واجب خدمتها اجتماعيا وثقافيا، وكرّس له آخر سنوات عمره في وفاء وعطاء عزّ نظيرهما.

أقام الأخ المربي طيبي الجمعي علاقة فريدة مع بلدته التي يضمر لها في وجدانه حبا عظيما، وخدمها حتى لا تظل كنوزها الثمينة في طيات النسيان ومخابئ الكتمان. ولذا لم ينقطع عن التعريف بتاريخها الذي يطوي قرونا من الزمن، وخاصة مساجدها العتيقة وزواياها العريقة وكتاتيبها القرآنية ومدارسها وواحتها وبساتينها وسواقيها في كل المناسبات، وعبر كل الوسائل المتاحة. ولم يتأخر عن إحياء أمجاد رجالها واحدا بعد الآخر اعترافا بما قدموه من أعمال جليلة تصلح بأن تكون بطاقات افتخار للتعريف بها.

يمتلك الفقيد المربي طيبي الجمعي سمات المربين العظام الذين عاشوا في ظلال التربية عن رغبة وقناعة وتعلق، ولم ينجذبوا إليها مرغمين تحت دفع الحاجة بعد أن انغلقت أمامهم السبل. وخدموها اعتبارا لمدى أهميتها في تشكيل عقول الخلف وإعداد أجيال المستقبل. ومن جانبها، منحته التربية من مزاياها وأساليبها ذخائر جعلته يتبوأ مكانة مرموقة خارج الإطار المدرسي حتى أصبح عنصرا متميزا في مجتمعه المدني الشعبي. فقد كان اللسان المتكلم والقلم المدوّن أثناء الحديث عن تاريخ أمدوكال الذاهب في القدم. وكان العضو المتصدر للأعمال الخيرية المختلفة بما في ذلك بناء المساجد. وكان رائدَ مجالس الصلح للفصل بين المتخاصمين وانتزاع بذور الشقاق وطمر الخلافات، وكان اليد الحانية على كل محتاج وفقير. وكان منزله مأوى للشاكين والمتباكين الذين لا يدخر جهدا للتخفيف من آلامهم. وكان مقصدا للأيتام والأرامل الذين نشبت في لحومهم أنياب الدهر، وعضّتهم بقسوة. وبعد كل ذلك، فقد كان يمنح للصداقة معناها الأقصى، ويحافظ على دوامها بالسؤال والتفقد والتواصل والزيارة. وكان شديد التأثر إن ألمَّ بأحد أحبائه خطبٌ أو داهمه كرب.

يمكن أن يكون التواضع والمبادرة إلى فعل الخير أو المشاركة فيه هي السما  الأولى التي تزدان بها شخصية الأخ المربي طيبي الجمعي. وأضاف إليها صفات أخرى انسلخ عنها الكثيرون في أيامنا، ومنها الحياء والإيثار والشهامة والتضحية في سبيل الآخرين. فقد كان رجلا حييا إلى حد لا يوصف، ولا يقوى على طلب الأشياء إلا من بعد إقدام وإحجام، وتردد وتمهيد، ولا يريد نيلها إلا في عز وصون نفس حتى لا يقع تحت وطأة التذلل والهوان.

تعدّ عائلة المربي طيبي الجمعي من بين العائلات الأصيلة التي سكنت بلدة أمدوكال، إلا أنه كُتب له أن يولد في حي الحراش المعروف في مدينة الجزائر العاصمة في سنة 1949م بعد أن فرضت الهجرة الاضطرارية على والده الانتقال إليها طلبا للعمل كما فعل معظم المدوكاليين في ذلك الزمن بسبب انحسار فرص العمل في بلدتهم. كما كُتب له أن يعيد الروح إلى بارئها في مستشفى مصطفى باشا بنفس المدينة. وطاف مرتحلا لمدة طويلة بعدة مدن في شمال الجزائر وفي جنوبها طلبا للعلم وبحثا عن مناهله الصافية للارتواء منها أو للعمل مربيا مقتنعا بدور التعليم في بناء المجتمعات وفي المحافظة على قيمها وتقاليدها. ولم يسترح إلا بعد أن ذهب إلى التقاعد في شهر سبتمبر من سنة 2009م. ولم يكن تقاعده بحثا عن الراحة بعد سنوات البذل المديدة التي أشرفت عن أربعين سنة، وإنما هو نزع لطوق العمل الرسمي وتحرر من قيوده الثقيلة وما تستوجبه من التزامات واستعداد دائمين. وبعد أن عاد للاستقرار بصفة نهائية ببلدته، تفرّغ للأعمال الخيرية المختلفة، وترك على صفحة كل عمل فيها بصمة تشهد على فكرته، وأثرا يخلّد مشاركته.

كان آخر عمل شارك فيه بحماس رغم الداء والعياء هو الوقفة التكريمية للمجاهد المعروف عمر صخري، وهو أحد القادة الكبار في الولاية التاريخية السادسة التي احتضنتها بلدة أمدوكال من شهور قليلة، وحضرها مجاهدون جاؤوها من عدة ولايات تقديرا لمكانة الرجل المحتفى به ولجهاده. وفي ذلك اليوم، أفضى إليّ بإحساسه بتعب شديد إلى درجة أن قدميه عجزتا عن حمله. ولم يكن عليّ سوى تشجيعه، ومحاولة التخفيف من شكواه، واصطنعتُ له مبررات رغم علمي بإصابته المرضية المقلقة.

كان اللسان المتكلم والقلم المدوّن أثناء الحديث عن تاريخ أمدوكال الذاهب في القدم. وكان العضو المتصدر للأعمال الخيرية المختلفة بما في ذلك بناء المساجد. وكان رائدَ مجالس الصلح للفصل بين المتخاصمين وانتزاع بذور الشقاق وطمر الخلافات، وكان اليد الحانية على كل محتاج وفقير. وكان منزله مأوى للشاكين والمتباكين الذين لا يدخر جهدا للتخفيف من آلامهم. وكان مقصدا للأيتام والأرامل الذين نشبت في لحومهم أنياب الدهر، وعضّتهم بقسوة.

أراد الأخ المربي طيبي الجمعي سد ثغرة في شطر تاريخ بلدته القريب المتعلق بمنجزها العظيم في الثورة التحريرية بفضل مساهمة أبنائها في العمل الجهادي في عدة أماكن من أرض الوطن. واستطاع أن ينطلق في مشروعه التوثيقي، وكلف نفسه جهدا مضنيا في البحث عن المادة التاريخية وجمعها، وفي تحمل عناء التنقلات والمقابلات والمراسلات والتدوين والتمحيص. وبعد انكبابه على هذا العمل لأشهر طويلة، ومن دون انقطاع، أتم إعداد الأول الذي وسمه بعنوان: “شهداء من بلدة أمدوكال”، وهو كتاب سيكتب له الخلود كمرجع متفرد في موضوعه. وطلب مني أن أراجعه وأن أقدم له. ولما كان الأخ طيبي الجمعي من الرجال الذين لا يمكن أن يُردَّ لهم طلب، استجبت له، وسعد بمساعدتي. واستحضر هذه الفقرة مما كتبته في مطلع كلمتي التقديمية: (لم يكن الاعتذار، حتى وإن اكتسى حلية مطرزة من اللباقة ورقة الأدب، لم يكن ينفعني في رد طلب المربي الكريم الأخ الجمعي طيبي لكتابة تقديم لمنجزه التأليفي؛ ذلك لأن الطالبَ رجلٌ طيب عن طبع لا تكلف فيه، والطيبة فيه راسخة، ويعز على من يقصده في طلب أن يمتنع ويرده خائبا. وإذ ألبي طلبه بغبطة، فإنني أعرف أن في دائرة معارفه الواسعة والمتشابكة من هو أجدر وأكفأ مني لكتاب هذا التقديم كتابة منمّقة لا تبخسه حقه).

بعد أن أعاد قراءة مخطوط الكتاب، كلفني في البحث عن مطبعة تتولى طبعه. وكان له ما أراد في وقت قصير. ولا يمكنني أن أنسى فرحته العارمة يوم ذهابنا معا إلى المطبعة لتسلم نسخ الكتاب التي بلغت ألف نسخة. وأسمح لنفسي أن أكرر القول إن هذا العمل هو من أجلِّ الأعمال التي قدَّمها إلى أهل بلدته. ولولاه لذهب شطرٌ ثري من تاريخ أمدوكال في مهب الريح. ولا يمكن أن يقابَل إحسانه هذا إلا بجزاء مضاعف من الإحسان الملفوف بالاعتراف والتقدير.

تحمّل المربي طيبي العربي مصاريف طبع كتابه وهي باهظة وثقيلة أمام من لا يملك موردا ماليا سوى مرتب تقاعده الزهيد. وحسب علمي، فإن الوعود التعويضية التي قدِّمت له بقيت وعودا كلامية جوفاء، ولم يُنجز منها شيء. وللحقيقة، فإن هذا الأمر لم يؤلمه كما آلمته كلماتُ التجريح والتشنيع من بعضهم الذين يختبئون خلف أصابعهم ويهوون بخس أشياء الناس وتحقيرها، والتقليل من اجتهاداتهم وإن ارتقت وعظمت في عيون الآخرين من النزهاء. وقد أثّرت هذه الإساءات المحرجة والجارحة في نفسه خاصة تلك التي كُتب بعضها على الورق وأرسلت إليه، وربما أبكته، فهو معروفٌ برقة أحاسيسه وجياشة عواطفه. ومع ذلك، فقد صبر أمام من صدرت منهم، ولم يردّ عليهم. وعلّمهم درسا بليغا في الصبر أمام الظلم والتسامح والعفو.

بمجرد أن أخرج المربي طيبي الجمعي كتابه الأول إلى القراء، شرع في إعداد كتاب ثان خصصه للمجاهدين من أهل أمدوكال الأحياء منهم والأموات حتى تكتمل حلقاتٌ معتبرة من التاريخ القريب لهذه البلدة. ووضع مسوّدته بين يدي في نسخة إلكترونية. ولما نظرت فيها، وجدت أن محتوياتها تحتاج إلى إعادة تنظيم وترتيب حتى تسهل قراءتها. وأخذ ملاحظتي بعين الاعتبار، وأنهمك يعمل بها إلا أن المرض اللعين الذي داهمه، واستوطن رئتيه منذ شهور سرق منه وقته لكثرة تردده على المصحات والمستشفيات وانغماسه في رحلات علاج متعددة. وإنني أدعو الله أن يعينني على إبراز هذا العمل وفاءً لروح الأخوَّة التي جمعتنا منذ أن تعرّفت إليه لما كان يتولى منصب مدير في إحدى المؤسسات التعليمية بمدينة مقرة من ولاية المسيلة في مطلع الألفية الجارية وخدمة للتاريخ الوطني.

رحم الله الأخ المربي جمعي الطيبي الذي قرن في اسمه بين صفتي القدرة على الجمع والطيبة، وأسكنه في جنة الخلد مع الأوفياء الأبرار.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • عادل

    رحمة الله عليه. شكرا جزيلا على هذا المقال أستاذ.