الرأي

النشر العلمي : وضعه يتزايد تعقيدًا!

ح,م

في الوقت الذي أقدمت فيه الجامعة الأردنية على إنهاء خدمات 21 أستاذا، من بينهم وزير سابق للتعليم العالي -لأنهم لم ينشروا أبحاثا علمية- نجد طلبة الدكتوراه وطالبي التأهيل عندنا يلهثون وراء نشر بحوث في مجلات محكّمة، وغالبا ما يُصدَمون بواقع مرير يتمثَّل في ضحالة مستوى الكثير من تلك البحوث وصعوبة النشر في المجلات الجادة، وتكالب مجلات تجارية أخرى في البحث عن مادة للنشر لكسب المال.

كيف كان العلماء…

عندما انطلق نشر البحوث في أوروبا، بالصيغة الحديثة، خلال القرن الثامن عشر، كان أصحاب القرار علماء تجمعهم هيئات، مثل الأكاديميات والجمعيات العلمية. فهؤلاء العلماء -حتى إن كانوا من بلد واحد- كانوا شديدي الحرص على نوعية الأبحاث وكانوا يحسنون فنّ التقييم ومراجعة البحوث وتفحصها قبل النشر.

ويلاحظ المتتبعون أن تلك الأبحاث كانت رفيعة المستوى رغم أن المجلات وهيئات تحريرها كانت “وطنية”. وكانت البحوث تنشر آنذاك للتعريف بالجديد في المجال العلمي فتبرز مكانة أولئك العلماء، وهم يتنافسون عبر الأوطان. وما كان يميزها بالنسبة لما نشهده اليوم هو أن الهدف من نشرها لم يكن هدفًا ماديًا. أما الغالبية الساحقة ممن ينشرون اليوم فهم موظفون مطالبون بالنشر السريع إن أرادوا الحفاظ على مناصبهم أو الترقية أو نيل الشهادات. ومن المعلوم أن هذا الوضع يدفع بالمعنيين إلى التهافت على النشر في المجلات دون إتقان أعمالهم ودون انتظار نضج أفكارهم.

وقد تزايد هذا الضغط وتزايدت المجلات العلمية في النصف الثاني من القرن الماضي، إذ أدركت الشركات الخاصة في الغرب والشرق بأن سوق المجلات تدرّ أرباحا طائلة، سيما أن سياسة النشر المتبعة تقضي بأن يجري المؤلفون بالمجّان جميع أعمال التصفيف والرقن لأبحاثهم من الناحية التقنية… فضلا عن أن تلك المجلات لا تدفع أي مقابل للمؤلف ولا للمحكمين عدا النادر منها. أما أسعار الاشتراكات في المجلات فباهظ، وذلك ما أدى إلى انتفاضة عارمة لمسؤولي المكتبات الجامعية في العالم اضطرت على إثرها كبريات الشركات إلى مفاوضة المكتبات وتخفيض أسعارها.

هذا الوضع الخطير في مجال البحث العلمي دفع أيضا بعديد الباحثين والأساتذة في العالم إلى الاسترزاق واستغلال هذه الظاهرة بإنشاء مجلات تدّعي أنها محكّمة وعالمية وعلمية. لكن الواقع غير ذلك، فهي لا تسعى سوى إلى استغلال تهافت الباحثين على النشر فتفتح لهم صفحاتها بمقابل مالي. وهكذا صارت ظاهرة النشر العلمي تتميز بما يلي : تكاثر عدد المجلات سيئة السمعة، تكاثر عدد أشباه الباحثين، تكاثر عدد البحوث الرديئة، تكاثر الاحتيال والسرقات العلمية…

وما يزيد الطين بلة في عصرنا هذا أن احتكار نشر المجلات العلمية قد بلغ ذروته. ومن أبرز الشركات المحتكرة لهذا القطاع الشركة الهولندية “ألسيفير” Elsevier، والألمانية “سبرينجر” Springer، والأميريكة “ويلي” Wiley. وما دام الكل يبحث عن الربح المادي فقد صارت مجموعات من “الأكاديميين” و”الباحثين” الجشعين عبر بلدان العالم تنشئ مجلات ربحية. وحتى تزيد من شهرتها ومداخيلها يتفق أصحابها مع كبريات شركات النشر (مثل التي ذكرناها آنفا) لتتولى أمر طبعها وتسييرها وتوزيعها بعد قبول البحوث من قبل منشئي المجلات. وبذلك يزيد ربح تلك الشركات وهؤلاء المسترزقين. أما من ينشر في هذه المجلات فهم غالبا “المستضعفون” من الباحثين المتطلعين إلى التوظيف أو الترقية. وقد بلغ الأمر

بكبريات دور النشر التي تشرف على إصدار آلاف المجلات العلمية عندما يصلها بحث ضعيف موجّه إلى مجلة راقية أن تُحيله -بدل رفضه- إلى مجلة ذات مستوى أضعف ينشر فيها البحث بمقابل (يدفعه المؤلف أو الهيئة التابع لها)، فتجني منه الدار ربحا مؤكدا.

محمد النشائي وإخوانه…

هناك نوع آخر من الانحراف الخطير في مجال النشر العلمي، أبرز مثال عنه هو ما قام به الفيزيائي المصري محمد النشائي، خريج ألمانيا وأنكلترا خلال السبعينيات. فهو لم ينشر سوى 8 أبحاث خلال الفترة 1974-1991. وفجأة أنشأ مجلة سماها Chaos, Solitons & Fractals (الشوّاش والموجات المنعزلة والكسوريات) ونصب نفسه عام 1991 مشرفا عنها، واتفق مع دار “إلسيفير” العملاقة على أن تقوم بتسييرها. وهنا قام النشائي بعمل لم يسبقه فيه أحد حيث نشر في مجلته بقلمه حتى عام 2008 ما يزيد عن 260 بحثا! وهذا سلوك لا يقبله أي باحث لأن الأخلاق العلمية تقضي بألا ينشر باحث هذا الكمّ من البحوث في نفس المجلة، فما بالك إن كان هذا المؤلف هو صاحب المجلة نفسه؟!

وقد كُشِف أمر وهذه القضية عام 2008 في مقال ظهر في مجلة علمية راقية (مجلة Nature) كفضيحة في عالم النشر. وعندئذ رفع النشائي شكوى قضائية ضد هذه المجلة، لكنه خسر القضية عام 2012… ووضع دار “ألسيفير” في حرج كبير. تجدر الإشارة إلى أن مثال النشائي ليس الوحيد من نوعه، فثمة العديد من الباحثين قاموا بإصدار مجلات لفتح صفحاتها لأنفسهم وأصدقائهم… ويحدث ذلك حتى في البلاد الغربية لكن بطرق أكثر دهاء من أسلوب محمد النشائي. وللتحقق من ذلك ينبغي تفحّص المجلة بالنظر إلى انتساب هيئة تحريرها، وإلى المؤلفين الذين قبلت أبحاثهم، وإلى مدى انتظارهم قبل نشرها، وإلى مراكز البحث والمخابر والجامعات التي ينتسبون إليها.

وللتميز بين الغث والسمين يجتهد الكثير من الخبراء في إيجاد معايير مختلفة يصنفون بها المجلات والبحوث والجامعات مثل “عامل التأثير”، وعدد الإحالات إلى البحث الواحد، وتصنيف الجامعات ومراكز البحث. غير أن المتتبع يلقى في كل هذه المعايير ثغرات ينفذ منها الغث إلى السمين… والأبحاث لا زالت جارية للحدّ من هذه الظاهرة التي تسيء إلى العلم والعلماء.

والإشكالية القائمة التي لم يتم الفصل فيها اليوم تكمن في أن معظم النظم العالمية في مجال البحث العلمي تتبع القاعدة القائلة بأن النشر في المجلات ضروري لتحسين الوضع المادي والاجتماعي والوظيفي للباحث. ولذا من الطبيعي أن يتم إنشاء مجلات جديدة لتكون وعاء لتلك البحوث التي يضطر أصحابها إلى إصدارها عموما قبل أوانها. وضعف تلك الأبحاث يؤدي إلى ضعف المجلات التي تصدر فيها. وما يدعم هذا التوجّه أن جلّ أصحاب المجلات الناشئة لا يهمهم سوى كسب المال. وهذا الوضع المزري يتفاقم يوما بعد يوم، ولا نرى له حلا في الأفق على المدى المتوسط.

مقالات ذات صلة