-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
رحلة مع ذي القرنين

النّهوض من الكبوة بحاجة إلى قائد

أبو جرة سلطاني
  • 529
  • 0
النّهوض من الكبوة بحاجة إلى قائد

ترسم الآيات الختاميّة من سيرة ذي القرنيْن لوحةً تربويّة بديعة لنهوض أيّ أمّة من كبوتها إذا ساقت لها الأقدار عالما أو مصلحا أو مجدّدا ينفخ فيها روح الثّقة بالنّفس ويعلّمها فنون القدرة على الأخذ بأسباب الإقلاع الذّاتي والبناء الحضاري مهما كانت الفجوة سحيقة بينها وبين النّهوض والتّطوّر والتقدّم؛ من أميّة أو حصار أو فقر ذات اليد أو ضحالة في المعرفة وقلّة في الإمكانيات… الخ.
• فرص النّهضة تلد من علوّ الهمّة.
• والرّغبة في الإقلاع تحتاج إلى تحرير إرادة.
• والنّهوض من الكبوة يسبقه ميلاد قائد يزرع في النّفوس الأمل.
إذا وجدت الأمّة من يقودها، أو ساقت الأقدار لها من يأخذ بيدها إلى برّ الأمان ومن يدلّها على طريق الصّحوة والانبعاث الحضاريّ، طوت فراش الكسل وتسابقت إلى ميادين العمل، وهو ما فعله ذو القرنين مع قوم فقدوا الرّغبة في المقاومة بتوالي الهزائم وببطش يأجوج ومأجوج وقهرهم حتّى ظنّوا أنهم قدر لا جدوى من مقاومته، ففقدوا ثقتهم بأنفسهم وصاروا لا يفقهون كثيرا ممّا يقال لهم من جدوى المقاومة والكفاح.
فما الذي اكتشفه ذو القرنين في تركيبة هؤلاء الأقوام؟ وما الذي بثّه فيهم من إكسير الحياة؟ وما مفتاح التّشغيل الذي أداره في أنفسهم فاكتشفوا ما كان فيهم من قدرة وقوّة وإرادة وعزم؟
بيّن لهم أنّ الثّروة الباقيّة كامنة في سواعدهم وليست مطمورةً في خزائنهم. وصنع لهم قدوة من نفسه لمّا ردّ عليهم خراجهم. وكشف لهم أنّ الفرص المتاحة بين أيديهم أكثر من التّحديّات التي يواجهونها. وأرشدهم إلى توحيد صفهم وجمع كلمتهم وتوجيه جهودهم تلقاءَ غاية واحدة: فالمنقذ الفاصل بينهم وبين عدوّهم ضيّق جدّا، وهو فرصة لهم تجعل الحواجز الطّبيعية سبيلا لشلّ حركة عدوّهم والحدّ من عدوانه عليهم إذا نجحوا في حبْسه خلق جبليْن. وكشف لهم أيضا أنّ لغة الحوار بينهم كانت غير ذات جدوى كونها ثقافة باردة وتنظيرا سمجا وخطبا أحاديّة لا ينبني عليها عمل.
وبيّن لهم أنه بسبب عزلتهم عن العالم الخارجي ـ خوفا من يأجوج ومأجوج ـ فقدوا أهليّة العيش بانقطاعهم عن أسباب التّعارف والتّعاون والنّصرة والمدد.. والعالم ليس ملكا ليأجوج ومأجوج بل هو أرحب من أرضهم، وهم قادرون على تخطّي حدوده إذا تحرّروا من عقدة الخوف التي تلازمهم، ولكنهم سجنوا أنفسهم في حيّز مغلق وضخّموا من حقيقة عدوّهم واستصغروا أنفسهم ففقدوا الأمل في إيجاد حلّ للمشكلة التي كانوا يواجهونها أمام الهجمات المتكرّرة من يأجوج ومأجوج. وعجزوا عن طلب المساعدة من غيرهم بانغلاقهم على أنفسهم.
ظلّوا على هذا الحال من الهوان حتّى دخل أرضهم رجلٌ واحد ليس في صدره خوف من يأجوج ومأجوج، ولا يحمل مالا ولا “خامات حسيّة”، ولكنّه موقن أنّ لأخذ بالأسباب منهج لتغيير العالم كلّه، فبدأ بهم فغيّر حياتهم وفجّر فيهم طاقات العمل بعد أن كانوا محاصرين خلف تضاريس جغرافيّة لا يعرفها أحد حتّى صاروا جماعة منغلقة بحاجة إلى اكتشاف جديد: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا)) (الكهف: 93)، وجد قوما حبسوا أنفسهم بين منفذيْن فلم يتعلّموا شيئًا من لغات البشر، وليس لهم علم بما يجري حولهم، ولا يفقهون من فنون الحياة شيئا خلا غرْقهم في التّنظير البارد والتّربيّة المتخندقة والتوجّس من كلّ طارئ.
ولكنهم بالتّجربة كانوا يعرفون كثيرًا من شؤون الحرب ومن أساليب منع هجمات المغيرين. فلما طلع عليهم ذو القرنيْن علموا أنّه يحوز قدرات قتاليّة عاليّة ستساعدهم على تأمين حياتهم داخل الحيّز المكانيّ الذي حدّدوه لأنفسهم موطنًا مغلقا اتّقاء شرّ عدوّهم المعروف بالفساد في الأرض. ومن التّجربة عرفوا أنّ خطة التصدّي لفساده تكمن في إقامة سدّ ضخم بينهم وبينه يحول دون تقدّمهم.
كان عندهم مال كاف لإقامة السدّ الحاجز بينهم وبين زحف يأجوج ومأجوج. وكانوا يعتقدون ـ كما يعتقد كلّ متخلّف ـ أنّهم بالمال يشترون كلّ شيء؛ حتّى مشاريع النّهضة وبرامج الخلاص ومرتزقة الحرب: ((قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا)) (الكهف: 94). الحلّ عندهم وهم يعرفونه ولكنّهم عاجزون عن إنفاذه بانتظار من ترسل أقدار الله ليقيم بينهم وبين عدوّهم سدّا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!