الرأي

الوباء الكاشف لأوبئة “نهاية التاريخ”

حبيب راشدين
  • 3011
  • 12
رويترز
أشخاص يضعون كمامات في إسطنبول يوم الاثنين 16 مارس 2020

الإجراءات الصارمة التي اعتمدها مجلس الوزراء في آخر اجتماع له حيال سبل استيعاب تداعيات تراجع أسعار النفط على الاقتصاد الوطني، هي في تقديري أهم من الإجراءات المعتمدة لمواجهة وباء كورونا، مع أهمية إجراءات الحجر والعزل الاجتماعي التي باتت متبعة في معظم دول العالم، بل ندين بها للوباء الذي حفز الحكومة على تقليص ميزانية الدولة بالربع في الحد الأدنى، ويحسن بنا أن نستعين به لكشف أوبئة إدارة الشأن العام بآليات “نهاية التاريخ” المزعومة.

فمع أن تدهور موارد الدولة المالية كانت قائمة منذ 2016 وبداية هبوط أسعار المحروقات المرتبطة بتراجع الطلب العالمي، فإنه لم يكن من السهل على رئيس منتخب في الظروف التي انتخب فيها السيد تبون، أن يبادر إلى اعتماد إجراءات تقشفية صارمة، من تداعياتها الأولى المستشرفة: تعطيل أغلب برامج التنمية التي وعد بها في حملته الانتخابية، وتوجيه ما بقي للبلد من موارد مالية لاستيعاب صدمة انهيار أسعار المحروقات، وما سيتبعها من تبعات تعطيل النشاط الاقتصادي على أوسع نطاق، بسبب وباء كورونا.

لست صاحب اختصاص في الاقتصاد حتى أقيم بموضوعية جملة الإجراءات التي اعتمدتها الحكومة، لكن المنطق وحده يملي علي وعلى غيري أن نتقبلها كإجراءات احترازية مفروضة، هي اليوم في متناولنا، وقد تمتنع عنا بعد شهر أو بضعة أشهر، حين يتراجع منسوب الخوف من كورونا، لنواجه مع بقية شعوب العالم أزمته الحقيقية بتحقق الانهيار المبرمج للاقتصاد العالمي، بتداعيات ليس بوسع أي خبير أن يحيط بها اليوم.

 في مقال سابق، لفت الانتباه إلى ما في محنة كورونا من منح وفرص، يفترض من النخب أن تستشرفها وترصدها، خاصة بالنسبة لاقتصاديات كانت مثل اقتصادنا متخلفة عن الركب، لم يعفنها بعد وباء العولمة، وما رافقه من هدم منهجي لمقومات الدولة القطرية، ومن تقليص مفرط متنامي لدور الدولة في إدارة الاقتصاد، هو اليوم في قلب الجدل القائم عند تقييم أداء الدول في مواجهة أزمة كورونا، وفي استباق التداعيات المستشرفة للأزمة الاقتصادية، بين ما يوصف بالأنظمة الليبرالية والأنظمة المتهمة بالشمولية.

فليس من قبيل الصدفة أن تكون الصين، التي انفتحت على النموذج الليبرالي في الاقتصاد، مع الحفاظ على “مزايا” السلطة المركزية وعلى قطاع عمومي قوي، أن تكون اليوم قدوة لبقية الدول في حسن إدارة مواجهة جائحة عالمية، نراها اليوم تعري هشاشة النظام الصحي في أغنى دول نادي العشرين، حتى تلجأ إيطاليا إلى الدعم الطبي من بلد محاصر منذ ستة عقود مثل كوبا، وتتعلق مثل الغريق بقشة الدعم من الصين وروسيا، بعد أن خذلها شركاؤها في الاتحاد الأوروبي المنتهية صلاحياته.

ولنفس الأسباب، فإن البلدان التي حافظت على قدر من السلطات الملكية السيادية للدولة القطرية، ولم تسلمها لأدوات السوق ولتحكم عصابة المرابين، سوف تكون أقدر من غيرها على التكيف مع تداعيات انهيار الاقتصاد المعولم الموبوء، وقد نحمد بعد حين للبيروقراطية المتهمة في بلداننا بتعطيل اندماجنا في الاقتصاد العالمي، وبتخلفنا عن الالتحاق بمنظمة التجارة العالمية، كما نحمد للنظام السابق تردده و”كسله” في تصفية القطاع العام وخصخصته، كما كان ينصحنا صندوق النقد الدولي والبنك العالمي.

ولنفس الأسباب، قد يحسن بنا التزام الحذر حيال نصائح بعض “الخبراء” الذين يغتنمون اليوم أزمة تراجع مواردنا المالية، للدعوة مجددا وبإلحاح إلى الاستدانة الخارجية، وتسفيه الاستعانة بالتمويل غير التقليدي، الذي ينفذ اليوم على مستوى غير مسبوق في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأرقام فلكية، بضخ تريليونات الدولارات لإنقاذ اقتصادهم من الإفلاس.

وسواء شئنا ذلك أم أبينا، فإننا مقبلون على حقبة قد تمتد لعقد من الزمن أو أكثر، سوف تضطر فيها أغلب الدول إلى اعتماد ما يشبه “اقتصاد الحرب” بكل ما تعنيه الكلمة من مراجعة موجعة في السلوك الاستهلاكي، وفي تحديد الأولويات، بل وفي ابتكار نماذج بديلة في إدارة الشأن العام، في السياسة وفي الاقتصاد، ليس لها وصفة واحدة معلبة لا تقبل للاجتهاد، كما روج بعضهم لـ”الليبرالية الغربية” كوصفة سحرية لـ”نهاية التاريخ” قبل أن يفضحها اليوم أصغر مخلوقات الله.

مقالات ذات صلة