-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الوجه الآخر للويس باستور! 

الوجه الآخر للويس باستور! 

 ولد لويس باستور (1822-1895) قبل قرنين، وقد احتفلت فرنسا عام 2022 بذكرى ميلاده. ولا أحد يشكك فيما قدمه باستور للإنسانية في مجال اللقاح ضد الأمراض وعلى رأسها اكتشافه عام 1885 لقاح ضد داء الكلب، وهو ما أدى إلى توسع الرعاية الصحية على المستوى المعمورة.

ففي 6 جويلية 1885، استقبل لويس باستور في مكتبه بباريس أحد صغار الرعاة قدِم إليه من منطقة الألزاس طالبا النجدة بعد أن تعرض هذا الشاب لعضة كلب مسعور فجازف باستور بمعالجته من خلال تلقيحه بلقاح لازال مجهول العواقب، وكانت نتيجة هذه المغامرة شفاء الراعي! وذاع صيت اللقاح وأثبت جدواه.

باستور يخاطب الإمبراطور البرازيلي

وقد كان لباستور الحظ في نجاح لقاحه لأنه لم يختبره سوى على شخصين، وكان يسعى إلى تجريبه لمعرفة مدى فعاليته. ذلك ما جعله يراسل عام 1884 إمبراطور البرازيل بيدرو الثاني (1831-1889) الذي كان شغوفا بالعلم ويراسل العلماء ويدعمهم. وجاءت في هذه الرسالة العبارات التالية: “لو كنتُ ملكًا أو إمبراطورًا… فها هي الكيفية التي أمارس بها حق العفو عن المحكوم عليهم بالإعدام: عشية تنفيذ الإعدام، أعرضُ على محامي المحكوم عليه الخيار بين الموت الأكيد لموكله [الإعدام] أو الخضوع لاختبار يتمثل في تلقيح وقائي ضد داء الكلب”. لكن الإمبراطور البرازيلي لم يستجب لندائه نظرا لظروف بلده الصعبة في تلك الفترة. كما عُرف باستور بابتكاره طريقة “البسترة” عام 1865 للحفاظ على المواد الغذائية.

يُقال إن باستور كان غير منصف مع أسلافه والمتعاونين معه، وكان على استعداد لسرقة أفكار منافسيه، وإنه كان جشعا وطموحا بشكل مفرط حتى أن البعض اليوم يعيب على أننا نحتفل بذكراه. ولذلك جاء كتاب مورانج ليلقي الضوء بهدوء على سلوك هذا العالم، مع محاولة وصف مساهماته بدقة وعدم إغفال إبراز السمات الأكثر صعوبة في شخصية هذا العالم.

ذلك ما يعلمه الجمهور الواسع، لكن هناك جانبا من حياة باستور يجهله عامة الناس تتعلق بسلوكياته مع زملائه من العلماء. فقد كان شديد الجدل واتُّهم باتهامات كثيرة لا مجال للتطرق إليها في هذا المقام. نكتفي هنا بتسليط الضوء على مواجهته للمدافعين عن فرضية معروفة عند علماء الأحياء، تسمى فرضية “التولّد الذاتي” أو التلقائي (Spontaneous generation)، تقول بإمكانية نشأة الحياة من مواد لا حياة فيها، مثل المركّبات العضوية. واعتقد بعضهم أن ذلك ما حدث قبل نحو 4 ملايير سنة. بمعنى أن تفاعلات كيميائية معينة هي التي أدت إلى ظهور الحياة على وجه الأرض. وقد ظهرت في هذا الموضوع عديد الدراسات المتشعِّبة عبر العقود دمجت بين الكيمياء والأحياء والجيوفيزياء والإيديولوجيات. ومن بين العلماء الذين اهتموا بهذا الموضوع لويس باستور الذي كان يعمل باستماتة في أعماله وأبحاثه العلمية لدحض هذه الفرضية. وقد استطاع تحقيق هدفه بعد سنوات عديدة من الجدل في رحاب الأكاديميات وفي صفحات المراسلات. وتم ذلك عن طريق التجارب العلمية المتكررة.

ومن يسمع الآن بعلماء كانوا ذائعي الصيت وأعضاء أكاديميات العلوم والطب في البلدان الأوروبية، مثل الأطباء جول غيرينJules Guérin  (1801-1885)، وجبرييل كولين Gabriel Colin (1825-1896)، وميشال بيتر Michel Peter  (1824-1893)؟ لقد طوى ذكرهم النسيان رغم أنهم كانوا من أكبر منتقدي لويس باستور وأكثرهم حماسة في تأكيد فرضية التولد الذاتي. وبطبيعة الحال فبعض انتقاداتهم كانت صائبة. لكن لويس باستور كان عنيدا ويعشق الجدل ويردُّ على من يواجهه وهو واثقٌ من نفسه…  حتى أنه كان يبتعد أحيانا عن قواعد النقاش العلمي فيزيد حدة النقاش بلة.

كتابٌ جديد حول حياة باستور

وفي هذا السياق، وللتعرف على حقيقة مثل هذه القضايا في حياة باستور، نشر الباحث السابق في معهد باستور بباريس، ميشيل مورانج Michel Morange سيرة ذاتية عن لويس باستير في كتاب يقع في 432 صفحة، وقد صدر بباريس في أكتوبر 2022. يذكر الكاتب أنه في بعض الكتابات تمت الإشادة بشخصية لويس باستور بلا حدود، وأحيانا أخرى تعرَّض لانتقادات شديدة، خاصة خلال العقود الأخيرة. ويُقال إن باستور كان غير منصف مع أسلافه والمتعاونين معه، وكان على استعداد لسرقة أفكار منافسيه، وإنه كان جشعا وطموحا بشكل مفرط حتى أن البعض اليوم يعيب على أننا نحتفل بذكراه. ولذلك جاء كتاب مورانج ليلقي الضوء بهدوء على سلوك هذا العالم، مع محاولة وصف مساهماته بدقة وعدم إغفال إبراز السمات الأكثر صعوبة في شخصية هذا العالم.

وعلى كل حال، يؤكد مورانج أنه يمكن اليوم تجديد استعراض شخصية لويس باستور وعمله بالاعتماد على وثائق غفل عنها المؤرخون أو لم يسبق الاطّلاعُ عليها، مثل دفاتر ملاحظاته المخبرية. كما ينبغي إيلاء المزيد من الاهتمام لكتاباته ومنشوراته العديدة حتى لا يظلم أحدا. يلاحظ الكاتب أنه منذ تم نشر السير الذاتية الأولى للويس باستور، تطورت الأبحاث التاريخية بشكل عميق، وتمت إثارة أسئلة جديدة تتماشى مع انشغالات العلماء والقراء في الوقت الحاضر. ولذا استغل الكاتب هذه الوثائق الجديدة لأنها كفيلة بتقديم إجابات عن تلك الأسئلة الجديدة، وتُمكِّن من تقديم تفسيرات للعديد من مراحل أعمال لويس باستور.

قال ميشيل مورانج عن عمله كمؤرخ: “كان لديّ الأمل، عندما بدأت في كتابة هذه السيرة الذاتية، أن ألقي ضوءًا جديدًا على باستور بفضل إعادة قراءة متأنية لجميع كتاباته، واستخدام دفاتر ملاحظاته المخبرية وتحولات البحث التاريخي. وهكذا، سرعان ما ظهرت لدي قناعة بأنه يمكننا إعادة تفسير حلقات معينة من حياته العلمية وسلوكه، مما يمنحه صورة أكثر ثراءً وإنسانية”.

والغريب أن نجد من بين المناوئين للويس باستور الطبيب ورجل الدولة الفرنسي الشهير جورج كليمنسو Georges Clemenceau (1841-1929). لقد اشتهر هذا الزعيم بتولي رئاسة الحكومة مرتين، منها خلال الفترة الحرجة 1917-1920، إذ قاد فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، واشتهر بمواقفه الصلبة الداعية إلى مواصلة الحرب حتى النصر على الألمان، وهو ما جعل البعض يلقبه بـ”زعيم النصر”.

ومن مواقف كليمنسو الجميلة أنه كان ضد الاستعمار، ووقف بقوة في وجه جول فيري Jules Ferry (1832-1893) في نهاية القرن التاسع عشر حول قضية الاستعمار الفرنسي للدول الضعيفة. بل استطاع إلحاق الهزيمة بحكومة جول فيفري الذي كان يؤمن بوجود عرقين مبررا بذلك “إيجابيات الاستعمار” للشعوب المستضعَفة. فردّ عليه كليمنسو ببعض الاستهتار، قائلا: “إني أشعر بالتدنّي منذ أن رأيت العلماء الألمان يبرهنون علميًا على أنه كان يجب إلحاق الهزيمة بفرنسا في الحرب الفرنسية الألمانية، لأن الفرنسي من عرق أدنى من العرق الألماني… لا أريد أن أحكم على جوهر هذه الأطروحة [يقصد أطروحة جول فيري الممجِّدة للاستعمار] فهي ليست سوى إعلان عن هيمنة القوة على القانون”.

وإذا عدنا إلى باستور، فإننا نجد كليمنسو هذا يشنّ عليه هجوما كاسحا مؤكدا أن الدواعي التي جعلت باستور يقف ضد “التولد الذاتي” دواعٍ إيديولوجية ودينية بحتة، وأن باستور ليس أصلا مؤهلا للحكم في هذا الموضوع لأنه ليس طبيبا. لكن بعد أن دحض باستور تلك الفرضية بقوة الحجة العلمية والتجربة وذاع صيته، اعترف كليمنسو بارتكابه خطأ في حقّ باستور.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!