-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الوظيفة الوجودِية للإنسان في سياسة الدُّنيا بالدِّين

ناصر حمدادوش
  • 624
  • 0
الوظيفة الوجودِية للإنسان في سياسة الدُّنيا بالدِّين

هناك وظيفةٌ وجوديةٌ للإنسان، لا يزال صَدَاها يتردَّد في أرجاء الكون، إذْ تقدَّم الإعلان عن وجود صاحبها قبل خلقه بهذه الصِّفة الخالدة، عبر ذلك الحوار القُدسي في الملأ الأعلى، وذلك الإعلام المسبق من الله تعالى لملائكته حول الغاية الوجودية للإنسان، فكانت هذه الأصالة في التصوُّر الإيماني عنه، إذْ نقَلَنا القرآن بعيون البصيرة لنرى بكلِّ شفافية تلك القصَّة الأولى لحقيقة الإنسان ومقصدية وجوده، في قوله تعالى: “وإذ قال ربُّك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة..”(البقرة:30).

ومع أنَّ المقصود الأوَّل بهذه الآية هو آدم عليه السلام، إلاَّ أنَّها عامةٌ في مطلق الإنسان، كما قال الحافظ “ابن كثير” في تفسيره: “والظاهر أنه لم يُرِدْ آدم عَيْنًا، إذ لو كان كذلك لَمَا حَسُن قول الملائكة: “أتجعل فيها مَن يفسد فيها ويسفك الدِّماء…”، فإنهم إنما أرادوا أنَّ مِن هذا الجنس مَن يفعل ذلك..”، قال الإمام “القرطبي” في تفسيره: “وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره..”، واستنبط من الآية وجوب بناء النظام السياسي والدستوري والقانوني للأمَّة، وعدم مقبولية الفراغ المؤسَّساتي لها، فقال: “وهذه الآية أصلٌ في نَصْب إمامٍ وخليفةٍ يُسمع له ويُطاع، لتجتمع به الكلمة، وتَنْفُذَ به أحكامُ الخليفة، ولا خِلاف في وجوب ذلك بين الأمَّة ولا بين الأئمة..”، وعقَّب الحافظ “ابن كثير” على ذلك بقوله: “.. إلى غير ذلك من الأمور المهمَّة التي لا يمكن إقامتُها إلا بالإمام، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.”.

هي إذن المشيئة الإلهية التي أرادت أن تكون السِّيادة للإنسان في هذا الكون، فتُطلِق إرادتَه وقدرته في هذه الأرض، فكانت تسميته بحسب وظيفته، وهي دلالةٌ بالغة لعِظم المكانة وضخامة المهمة المُوكَلة إليه، وهو بيانٌ إلهيٌّ عن هذه الوظيفة الملازمة له، وهي مسؤوليةُ تسلَّم مقاليدها بلا منازع، فلا تزال في عُهدته إلى يوم الدِّين، إلا أنها اختيارية وليست قهرية، وهو مظهرٌ من مظاهر التكريم الإلهي للإنسان.

وقد تكرَّر هذا التذكيرُ بهذه المهمة في مواضِع كثيرةٍ من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: “وهو الذي جعلكم خلائف الأرض، ورفع بعضكم فوق بعضٍ درجاتِ ليبلوكم فيما آتاكم..” (الأنعام:165)، للاعتقاد الجازم بأنه هناك تناسقٌ بين ما تدَّخره الأرض من طاقاتٍ وكنوزٍ وهِبات كتسخيرٍ إلهيٍّ كليٍّ، كما قال سبحانه: “هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا..” (البقرة:29)، وبين ما يتميَّز به الإنسان من مَلَكات ومواهب وقدرات وقِوَى خفيَّة تحقِّق المشيئة الإلهية، إذ أنَّ الأصل في هذه الإرادة الإلهية في الاستخلاف هو تحقيقُ النظام في هذا الوجود، ليقع الانسجامُ بين القوانين التي تحكم الكون (السُّنن الكونية) والقوانين التي تحكم الإنسان (الأحكام الشَّرعية والسُّنن النفسية والاجتماعية والتاريخية)، وألاَّ تتحطَّم إرادة الإنسان على صخرة هذا الكون.

لقد هيَّأ الله تعالى هذه الأرض كبيئةٍ فريدةٍ دون سائر الكواكب والمجرَّات، لتكون مجالاً لممارسة وظيفة الخلافة، وهي المهمة الوجودية للإنسان في خلافة الله تعالى في إمضاء أحكامه (أمرًا ونهيًا)، وهو ما يتطلب سيادة الإنسان في الكون وبسط سلطانه فيه، وهو المعنى الذي يقتضي أنَّ هذه المهمة تستمد جوهرها وحقيقة أبعادها من هذه العلاقة الثنائية المقدَّسة بين الله والإنسان، ولا شكَّ بأنَّ المعنى الأقرب للخلافة في هذه العلاقة هي علاقة القرب بين المستخلِف والمستخلَف، وصفة الثقة التي منحها المستخلِف، والقدرة التي يتميَّز بها المستخلَف لأداء هذه المهمة كما يريدها الله تعالى منه.

والإنسان الخليفة يجب أن يحصر همَّه في التألق في هذه المهمة، وكيفية تحقيق هذا القرب المقدَّس، وترقية هذه الذات وتنمية هذه القدرات حتى تبلغ درجة المقبولية للنجاح في هذه الوظيفة، وأنَّ هذا الجهد يجب أن يتَّجه رأسًا إلى الله تعالى، كما قال سبحانه: “يا أيُّها الإنسان إنَّك كادِحٌ إلى ربِّك كدْحًا فمُلاقِيه.” (الانشقاق:06)، فقد نُودِي بهذا النداء العلوي النَّدِيِّ، مذكِّرًا إيَّاه بأنَّ الأصل في الإنسان هو الجهد والمعاناة، وأنَّ كلُّ مَن وُصِف بمطلق الإنسانية كذلك، إلاَّ أنَّ الجهد الاستخلافي يجب أن يتَّجه إلى ربِّه، إذْ أنه هناك لقاءٌ للنظر في كشف الحساب عن الغاية الوجودية للإنسان في سياسة الدُّنيا بالدِّين.

“يا أيُّها الإنسان إنَّك كادِحٌ إلى ربِّك كدْحًا فمُلاقِيه.” (الانشقاق:06)، فقد نُودِي بهذا النداء العلوي النَّدِيِّ، مذكِّرًا إيَّاه بأنَّ الأصل في الإنسان هو الجهد والمعاناة، وأنَّ كلُّ مَن وُصِف بمطلق الإنسانية كذلك، إلاَّ أنَّ الجهد الاستخلافي يجب أن يتَّجه إلى ربِّه، إذْ أنه هناك لقاءٌ للنظر في كشف الحساب عن الغاية الوجودية للإنسان في سياسة الدُّنيا بالدِّين.

إنَّ التكامل في شخصية الإنسان للتأهُّل إلى هذه الوظيفة الوجودية إنما يتجسَّد بمنهاج العبادة كصبغةٍ إلهيةٍ ثابتة: “صبغة الله، ومَن أحسن من الله صبغة، ونحن له عابدون.” (البقرة:138)، إذ أنَّ العلاقة التعبُّدية بين الله والإنسان هي المقصدُ العقائدي من خلقه، كما قال تعالى: “وما خلقتُ الجنَّ والإنس إلا ليعبدون.” (الذاريات:56)، وأنَّ المعنى الحقيقي والشامل للعبادة هو إسلام النَّفس البشرية لله تعالى إسلامًا كلِّيًّا في الأمر والنهي، ولا شكَّ بأنَّ هذا الارتقاء في علاقة القرب يكون بكلِّ كينونة الإنسان جسدًا وروحًا حتى يصل إلى “قمَّة الكون

إنَّ هذه الوظيفة الوجودية تقوم على حقيقتين:

1/ توافق التركيب الذاتي للإنسان مع هذه الوظيفة: فالخلق العجيب للإنسان جعل منه بشرًا من طين، ووظيفة هذا الجزء الترابي وهو وُسْع الطاقة المادية التي تجعله يباشِر الكون، ويتعامل مع الواقع، ويتفاعل مع الحياة بالسَّعي البشري والفِعل الإنساني لصناعة النهضة والحضارة بتعميرها، كما قال تعالى: “هو أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها..” (هود:61)، وجزءًا روحيًّا علويًّا مقدَّسًا، بشرف النِّسبة إلى الله تعالى، كما قال سبحانه للملائكة في معرض التشريف والتكريم: “فإذا سوَّيته ونفخت فيه من روحي فَقَعوا له ساجدين.” (ص:72).

ووظيفة هذا الجزء الرُّوحي هو اقتباس الأفق الإلهي بحُسْن التلقي والفهم والأخذ عن الله تعالى بواسطة الوحي، إدراكًا واستيعابًا وعملاً وفق أمْرِه ونهْيِه.

فطرَفا الخلْق (الرُّوح والجسد) يربطان بين السَّماء والأرض، ليتكامل بهما صفاء العقل مع نور الوحي.

2/ رِفعة التكليف: فالإنسان هو العنصر المتفرِّد في المخلوقية بتحمُّل أمانة التكليف، كما قال تعالى: “إنَّا عرضنا الأمانة على السَّموات والأرض والجبال فأبَيْن أنْ يحملنها وأشفقنا منها، وحملها الإنسان..” (الأحزاب:72)، فهذه الخلائق الضخمة من السَّموات والأرض والجبال تؤدِّي دورها الكوني أداءً فطريًّا، وتخضع لقانونها السُّنني خضوعًا قهريًّا، فلا يكون ذلك إلا اضطرارًا لا اختيارًا، في طاعةٍ مباشرة بلا تدبُّرٍ، والتزامًا قهريًّا بلا محبَّة، فهي لا تتنعَّم بالحرِّية ولا تتميُّز بالإرادة ولا تسمو بالمشاعر، مثل تميَّز الإنسان تميُّزًا نوعيًّا بها، إذْ أنَّ وظيفة هذا الاستخلاف في تحمُّل أعباء هذه الأمانة لا يكون إلاَّ على أساس الحرية والإرادة والاختيار بين الأداء والترْك، بعد التبصُّر بحقيقة المسؤولية وما يترتَّب عنها من الجزاء والعقاب، كما قال تعالى عن النَّفس البشرية: “فألْهَمَهَا فُجُورها وتقوَاهَا، قد أفلح مَن زكَّاها، وقد خاب مَن دسَّاها.” (الشمس: 8 – 10).

والمقصد الأسمى في تطابق معنى الأمانة مع معنى التكليف هو لبيان القيمة الوجودية للإنسان من بين سائر المخلوقات، إذْ لا تُعرَض الأمانة ولا يُعْهَد بها إلاَّ لمن تميَّز تميُّزًا استعلائيًّا في الرِّفعة الخِلقية والعلوِّ الخُلُقي، وهو ما يجعله يتفرَّد بالصلاحية والأهلية لذلك.

إنَّ منهاج هذه الخلافة لا يقوم إلاَّ على أساس تكامل الوحي، وهو كلام الخالق سبحانه، مع العقل وهو قدرة الإنسان، حتى تتكامل حقيقة خلقه مع استحقاق تشريعه: “ألا له الخلق والأمر..” (الأعراف:54)، إذْ أنَّ مهمة الإنجاز الإنساني في الاستخلاف في الأرض قد أُوكِلت إلى العقل، فهو المخاطَب بالتكليف، ولا فاعلية للأساس النظري (الوحي) إنْ لم يتم تنزيله واستدعاؤه إلى واقع الإنسان، وهو ما يؤكِّد على ضخامة وظيفة العقل في الفهم العميق والاستنباط الدقيق والتنزيل الوثيق لهذا المنهج الاستخلافي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!