الرأي

انتهى النوم بالفعل..حانت مرحلة استحداث الفعل

محمد سليم قلالة
  • 3027
  • 8

غير صحيح أن الجزائريين كُسالى غير قادرين على العمل أو غير قادرين على الابتكار أو غير قادرين على أن يكونوا أسيادَ أنفسهم كما يتم الترويج له منذ بضع سنين. عكس ذلك أبسط الجزائريين بإمكانه أن يستحدث الفعل وأن يتحكم في التغيير الذي يريد، وما الوهن الذي أصابه اليوم إنما هو نتيجة سياسة مرحلة لن تستطيع أن تستمر مهما كانت دوافعها ومبرراتها.

معنى استحداث الفعل ” provoquer l’action في مجال الاستشراف أن تكون لدى الفرد أو المؤسسة أو الدولة القدرة على إحداث التغيير المرغوب فيه فتقوم به بنفسها وتتحكم في مآله مسبقا. وهذا من مكونات الرؤية الاستشرافية: عندما تستطيع أن تفعل فقط انطلقت، وعندما تستطيع أن تستبق الفعل فقد تنبأت بالتطورات القادمة وأعددت نفسك لمواجهتها إعدادا جيدا، أما إذا استحدثت الفعل فتكون قد قمت بما تريد أن تقوم به من غير تدخل الآخرين، بمعنى أنك بدأت تمتلك رؤية وتسير على خُطاها.. وهذا الذي انطلقنا منه عند بداية كتابة هذه الحلقات:كيف نساهم كأفراد أولا في صوغ رؤية لجزائر الغد بعيدا عن المهاترات السياسوية لهؤلاء أو أولئك، وبعيدا عن كل مزايدات حزبية أو فئوية؟ وكيف يمكننا أن ننتقل بهذا التفكير إلى مستوى العمل المؤسسي، ثم الجماهيري ليتحول إلى مشروع حقيقي يتبناه المجتمع ويسير على خطاه لعقود من الزمن إن لم يكن لقرون تتقدم من خلاله بلادنا وتستعيد مكانتها بين الأمم.

لعل البعض يعتبر أن هناك مبالغة في التفاؤل في مقدمة هذا الموضوع، بأن الجزائري قادر على الفعل وعلى الاستباق والاستحداث، ولكن عندما يتم تذكيره ببعض التاريخ يكتشف أن أساس إعادة إحياء الدولة الجزائرية الحديثة بعد أن كادت تُمحى من الوجود نهائيا من خلال سياسة فرنسية ممنهجة، إنما يعود بالأساس إلى القدرة على استحداث الفعل. ألم تكن الثورة التحريرية بالأساس عملا ثوريا من أجل تحقيق هدف منشود هو التغيير بعينه؟ هل كانت لدى من قاموا بها كل الإمكانيات التي تضمن لهم النجاح بالحسابات المادية؟ أم أنهم انطلقوا من رؤية واضحة تقوم على مبدأ الوحدة والعمل. بل ألم تتم تسمية أول لجنة قامت بالإعداد الفعلي للانطلاق في استحداث الفعل الثوري بـ”اللجنة الثورية للوحدة والعمل”CRUA؟ ألم يكن ذلك دليلا على امتلاك رؤية واضحة رغم كل تلك الانقسامات التي كانت سائدة في حينها، في وجهات النظر بين الرفقاء والفرقاء من مناضلين وسياسيين؟

يبدو أنها كانت الحقيقة بعينها والتي ينبغي أن نؤسس انطلاقا منها لقناعتنا بأننا نمتلك رصيدا في مجال استحداث الفعل لا يمكن أن ينكره أحد. فلماذا أصبح حديث الكثير منا لا يبدو مستقيما إلا إذا رمى هذا الشعب بالكسل والخمول وعدم القدرة على الحركة؟ هل حصل تبدل في جوهره لنسلم بذلك؟ أم أن الأمر يتعلق بمرحلة أخطأت السياسة فيها في الدفع به نحو الأفق المطلوب ومنعته من أن يكون كما يريد، وبإمكان سياسة جديدة أن تعيد الأمور إلى نصابها؟

يبدو أن الجواب أكثر من واضح، لقد حاول الجزائريون عندما بدأت سياسة الإصلاحات التي هي في الواقع محاولة للتكيف مع متطلبات النظام العالمي الجديد أن يعتنقوا رؤية وأن يستبقوا الآخرين بالتغيير، فكانت الفرصة للمشروع الإسلامي أن يكون البديل، ولكنها أُجهضت لعوامل ليس هنا مجال تحليلها، إلا أنها أثبتت أن هناك طاقة كامنة داخل هذا المجتمع انفجرت ربما قبل الوقت المناسب أو لم تجد الصاعق المفجر المناسب، أو القيادة المناسبة، أو لأي سبب آخر، فانحرفت عن المسار ولم تحقق النتيجة التي كانت منتظرة منها. وبدل أن تدفع بالمجتمع إلى “الوحدة والعمل” من جديد كأساس للقدرة على الاستحداث، دفعت به نحو مزيد من التمزق واللاّعمل كأساس للركون والسكون والهروب من الواقع.

وبدا للبعض أنها الفرصة المناسبة لبناء أمجاد شخصية على حساب خيارات لها علاقة بالمستقبل الاستراتيجي للشعب والدولة الجزائرية، ورأى آخرون أنه من الأصلح لهم أن يتم تكريس ثقافة اللاّحياة  واللاّموت في هذا الشعب حتى يخلو لهم الجو فيعيثوا في الأرض فسادا، ويمرحوا ويرتعوا كما يشاؤون. وقد حدث ذلك بالفعل: بدل أن يتم  إدخال المجتمع ضمن ديناميكية الفعل والاستباق والاستحداث، تم تكبيله ضمن سياسة الانتظار ورد الفعل والشكوى ومد اليد، وجرى التعامل معه ولو ضمنيا، على أساس أنه يريد أن يُصبح غنيا من غير عمل، ومرتاحا من غير جهد، وأن يبني له الآخرون ـ بما في ذلك الدولة، ويوفر له لقمة عيشه الآخرون بما في ذلك الأجانب، مقابل حق وهمي سُمي بالحق في الريع البترولي، مقابل سياسة اجتماعية سُميت بسياسة دعم الشباب أو الفلاح أو العامل… إلخ

وهكذا بدل أن تسود ثقافة المنافسة والعمل والكد والجهد والبحث عن النجاح والتفوق، سادت ثقافة أخرى لا علاقة لها بروح الشعب الجزائري، ربما لم يعرفها في تاريخه تماما: روح التواكل، وانتظار المساعدات، والدعم، والاستلاف بنية عدم الإعادة.. وبدا لمن فقد ذاكرته التاريخية أن كل شيء قد انهار، وان هذه هي نهاية هذا الشعب الذي أبدع في الوحدة والعمل والاستباق والاستحداث ذات مرة غير بعيد في تاريخه المجيد.

ووصل الأمر بآخرين إلى حد القول بأن لا أمل في المستقبل تماما. وأن كل شيء قد انتهى وحُسم، وهذه هي نهاية هذه الدولة التي لم يمر على استعادة أكثر من نصف قرن. وانبرى البعض إلى التبشير بالمستقبل الأسود للجزائريين، وبالتنبؤ بأن لا أمل في الأجيال القادمة في أن تكون أجيال استباق واستحداث فعل فما بالك أن تقود إلى ذلك.

ونسي الكثير أن ذلك ليس سوى مجرد وهم تعيشه فئة ممن استكانوا واستفادوا ونهبوا وأهدروا قدرات هذه الأمة. أما الذين لم يتوقفوا عن العمل في أحلك الظروف، وممن لم تمت بداخلهم جذوة حب الوطن، فمازالوا يمتلكون القدرة والأمل في أنها ليست سوى مرحلة في حياة الشعب الجزائري  سيعرف أحسن بها. مرحلة هي في الواقع مقدمة لا بد منها لآت أفضل. ليس أكثر من استراحة مجاهد للبعض أو رجوع للورى قليلا للقفز أعلى  وأبعد لآخرين.

وأمامنا اليوم أكثر من فرصة لكي نُثبت هذه أو تلك بالانطلاق في مرحلة بناء وطني جديدة، تقوم على قواعد سليمة، أساسها الأول أن نعرف إلى أين نحن سائرون. أي أن نكون نحن أصحاب الفعل القادم ليس فقط خلال الخمس سنوات القادمة إنما خلال العقود الخمسة القادمة، باعتباره المستقبل المنظور الذي يمكننا الإعداد له من الآن.

إن جزائر الخمسين سنة القادمة ينبغي أن تكون جزائر الاستباق والاستحداث، لقد انتهت بالفعل مرحلة النوم والنوم العميق، وعلينا أن  نقول وداعا إلى غير رجعة لجزائر اللامبالاة ورد الفعل التي كانت خيارا مفروضا، لفترة محددة، وقد حان الآن لاستبداله بخيارات أكثر بعدا وأكثر تنوعا وقدرة على الاستمرار في المستقبل، وهي بلا شك مهمة إستراتيجية تتطلب الحسم الاستراتيجي بين أفضل الخيارات المطروحة، وذلك هو جوهر استحداث الفعل.

مقالات ذات صلة