-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

انطباعات عائد من جوهرة الساورة 2/3

انطباعات عائد من جوهرة الساورة 2/3

تحدثنا في الحلقة الأولى عن طبيعة الملتقى العلمي المنظم من طرف المحافظة السامية للأمازيغية في ولاية بني عباس. وقدمنا نبذة تاريخية عن هذه الولاية الفتية، أشرنا فيها إلى عراقة هذه المنطقة التي يعود تاريخها إلى عصور ما قبل التاريخ، مع ذكر بعض الشواهد التاريخية كالقبور والنقوش الصخرية والقصور القديمة. كما تحدثنا عن حفاوة الاستقبال الذي حظي به المشاركون في الملتقى من طرف السلطات المحلية.

أشغال الملتقى حول لغة الأم واللغات الإفريقية
تمّ افتتاح الملتقى العلمي الخاص باليوم الدولي للغة الأم، بمقر المجلس الشعبي الولائي. وتم استقبالنا في ساحة المقر من طرف فرق فلكلورية محلية أدّت رقصات تقليدية متناغمة مع طلقات البارود. وعقب ذلك توجهنا إلى قاعة المجلس الشعبي الولائي، حيث تداول على الكلمة السيد سي هاشمي عصاد رئيس المحافظة السامية للأمازيغية، بيّن فيها أهمية هذا الملتقى الهادف إلى بعث الموروث الثقافي الأمازيغي في هذه الولاية وغيرها من ولايات الوطن دون إقصاء. ثم تناول السيد الوالي الكلمة، نوّه فيها بأهمية هذا الملتقى العلمي في تماسك المجتمع، ورحّب بالمشاركين ترحيبا جميلا يليق بمقامهم، ثم أعلن عن الافتتاح الرسمي للملتقى.
وفي المساء توجّهنا إلى مدينة إڤلي التي بُرمِج فيها نشاط الملتقى، وحظينا بالترحيب، كانت بدايته نشيدا أمازيغيا قدّمه أطفال بلدة إڤلي، أعقبته كلمتا السيدين رئيس الدائرة ورئيس البلدية. ثم تجوّلنا في أجنحة المعرض المختلفة (بيع الكتب/ صناعات تقليدية/ نشاط جمعوي..). وقد حظي المعرضُ بإقبال جماهيري كبير، وتمتّع الحضور بالعروض الفلكلورية المرافِقة للمعرض. أمّا أنا فقد احتككت بالمواطنين المشاركين في المعرض، أحمل أسئلة كثيرة ساعدتني في الولوج إلى عوالم الموروث الثقافي/ التاريخي الغنيّ لهذه المنطقة. وقد وفّقني الله في الإلمام ببعض المعارف التاريخية، استقيتها من أفواه أعيان المنطقة الكثيرين، ومكّنتني من تحرير هذا المقال.

بلدة إڤلِي.. أيقونة الموروث الثقافي
بُرمج نشاط الملتقى في بلدة إڤلي، لاندراجها في مجال اهتمامات المحافظة السامية للأمازيغية العلمية، إذ لا تزال الأمازيغية بها حيّة لغة وثقافة، تتجلّى في لسان أهلها المسمّى محليا “تابلديت”، وفي موروثها الثقافي المادي وغير المادي. فحتّى اسم المدينة (إڤلِي) متّفق على كونه أمازيغيا. وحسب قناعة السيد مصطفى بن عثمان -المعروف في المنطقة باهتماماته الثقافية- فهو مشتق من جغرافية المكان المتميّز بتلاقي الوَادِيَيْنِ: زُوزْفَانَهْ، وڤِيرْ، ومنهما تشكّل وادي السّاورة الذي يخترق الصحراء ليصبّ في ناحية بوده بمنطقة أدرار. وعليه فإن كلمة “إڤلِي” أو “آڤلو نْوَامَانْ” تعني مكان تجمّع المياه بوفرة. وهناك تفسيرٌ آخر أفادني به السيد بن سعيد عكاشة، مفاده أن كلمة “إڤلي” مشتقة من كلمة “إغيل” التي تعني بالأمازيغية الذراع، وهو كناية عن القوة البدنية التي يتمتع بها سكان المنطقة، فتمكّنوا من تحدّي قسوة الطبيعة الصحراوية، بأن أقاموا بساتينَ غنّاء.
تقع مدينة إڤلِي شمال ولاية بني عباس، وتبعد عن مقر الولاية بـ75 كلم، وتقدّر مساحتها بحوالي 6000 كلم2، يبلغ عدد سكانها حوالي 8000 نسمة، يتجمعون بكثافة في مدينتي إڤلي ومازر. أمّا كنوزها الثقافية فهي متنوّعة، منها قبور يعود تاريخها إلى ما قبل التاريخ، ونقوش حجرية، وأفران الجير، وحواجز مائية قديمة، وأدوات حجرية كان يستعملها الإنسان القديم في حياته اليومية، وتجمّعات سكانية مبنية بمواد بناء محلية، تسمى “أغْرَمْ” أي القصر بالعربية، جمعها إغَرْمَاوَن (القصور)، منها أغْرَمْ أمقران (القصر الكبير)، وقصور بلدة مازر. وبها أيضا ينابيع مياه دافقة، وقد حباها الله أيضا بالعرق الغربي الكبير ذي الرمال الذهبية التي تبهر الناظر.

محاور الملتقى وتوصياتُه
تميّز الملتقى بتنوّع برامجه، شمل ورشات عمل موجَّهة للشباب، منها كتابة سيناريو وإنجاز أفلام صغيرة، وتقنيات التصوير الفوتوغرافي، والكتابة بحرف التيفيناغ. أما المحاضرات فهي متنوّعة قدّمها أساتذة كثيرون قدِموا من مختلف الجامعات الجزائرية وفي تخصّصات مختلفة، تمحورت حول المعارف اللغوية، وكيفية حماية التراث الأمازيغي بالجنوب الغربي للجزائر، وحول إسهام الأمازيغية في إثراء القاموس اللغوي لعلوم الطبيعة والحياة، وأهمية الإعلام في تثمين التراث الأدبي واللغوي للأمازيغية. بالإضافة إلى سهرة فنية تخللتها قراءة شعرية باللغتين العربية والأمازيغية.
اُخْتُتِم الملتقى بتقديم توصيات من شأنها أن تعمل على ترقية الأمازيغية وحفظ موروثها الثقافي، يمكن أجمالها فيما يلي:
– ترسيم الملتقى وجعله تظاهرة ثقافية سنوية، يتم تعميمه على الولايات العشر الجنوبية المستحدَثة بموجب التقسيم الإداري الجديد.
– تشجيع وتأطير المواهب المحلية في مختلف مجالات الإبداع.
– إدراج التراث اللساني المحلي “تابَلْدِيتْ” (شلحه) ضمن أولويات البرامج الوطنية للبحث PNR، على أن تتكفل المحافظة السامية للأمازيغية بإصدار قاموس يجمع مفردات هذا اللسان.
– إدراج لسان تابلديت الأمازيغي ضمن نشاط القناة الرابعة المرئية، وإذاعة الساورة المحلية.
– مرافقة الجمعيات الثقافية والفنية المحلية وتشجيعها على حماية التراث المادي وغير المادي، مع تشجيع التوأمة مع ولايات أخرى.
– الشروع في تدريس اللغة الأمازيغية عبر بلديات ولاية بني عباس، بالتنسيق مع مديرية التربية.

خرجاتٌ ميدانية
كانت لنا على هامش النشاط الفكري، زياراتٌ ميدانية قادتنا إلى نماذج من قصور مدينة بني عباس وبساتينها، رفقة مرشد سياحيّ أفادنا كثيرا بمعلومات دقيقة حول الحياة الاجتماعية بهذه القصور في الماضي. وقد لاحظتُ أثناء تجوّلنا في أحد البساتين، تدهور حالته بسبب تعطّل قنوات السقي، ولما استفسرت عن السبب، أخبرني المرشد السياحي أن ذلك يعود إلى ندرة الماء، فصارت الإدارة تزود به سكان المدينة بالدرجة الأولى.
ثم سألته عن تاريخ وصول الاستعمار الفرنسي إلى بني عباس، فأخبرني أن ذلك قد تمّ في مطلع القرن العشرين. وقد أخبرني السيد مدير السياحة عبد الكريم موساوي، أن أوّل إقامة سياحية في بني عباس، أنجزتها الشركة الفرنسية المنتجة للسيارات “سِيطْرُوَان Citroën” أيام الاستعمار الفرنسي، على هضبة تشرف على وادي الساورة الجميل، في إطار فعاليات سباق السيارات “رالي باريس- داكار”.

زيارة بلدية ألواته
قام المشاركون في الملتقى بزيارة بلدية ألواته، بدعوة من أهلها الطيبين، وقد اُعِدّتْ لاستقبالنا خيمةٌ كبيرة مفروشة بالزرابي، فيها وسائد ومفارش مريحة. وكان في استقبالنا الأهالي ورئيس البلدية السيد ميموني دحّان وفرق فنية أصيلة، وشعراء لا يزالون في هذه المنطقة يتبوأون منزلة عالية في المجتمع. وقد ألقى رئيس البلدية كلمة مؤثرة، فبعد الترحيب بضيوفه عرّج على التضحيات الجسام التي قدّمها الشعب الجزائري من أجل استرجاع الاستقلال الوطني، ثم دعا الجمعَ الغفير إلى العضّ بالنواجذ على الوحدة الوطنية، مع وجوب احترام التنوع اللغوي والثقافي المميّز للهوية الجزائرية. وقد انبهرتُ بمستوى وعيه السياسي العالي، الذي قلّ نظيره.
ثم استمتعنا بعروض ثقافية قدمتها فِرق محلية إنشادية، يرافقها النقر على آلات الڤلاّل والطبل، جسّدت موروثنا الثقافي الأصيل. وقد لفتتْ انتباهي فِرقة قدّمَ أعضاؤها عرضهم وهم جالسون في حلقة، يتناوبون على النقر على طبل كبير الحجم، بإيقاعات متنوعة، وأخبرني السيد نافع بلڤاسم الذي كان بجنبي (وهو من البلدة)، أن هذه القعدة تسمى “الرسمة”، وتضم عدّة شعراء يتناوبون على الإنشاد، في أغراض شعرية مختلفة (الغزل/ الرثاء/ المدح). ومن أنواع الرسمة ” الدّرْجْ والدّرِيجْ. وتتميز طريقة الإنشاد بدورين؛ رئيس الفرقة يبادر إلى الإنشاد، وأفرادها يكرّرون جماعيا ما قاله، بكيفية متناغمة مع النقر على الطبل بالتناوب. وفي الحقيقة، فإن الشرح العميق المفعم بغزارة المعلومات، الذي قدَّمه لي السيد نافع بلڤاسم في ظرفٍ وجيز، جعلني عاجزا عن استيعابه، فاكتفيتُ هنا بوصف مقتضب قد لا يفي بالغرض، لتلك العروض ذات الدلالة العميقة. وبعد نهاية العرض، انتقلنا إلى غرفة مخصّصة للعشاء ذكّرتني بقصور الأندلس، مزدانة بالزرابي والمفارش التقليدية والأرائك والموائد الملآى، كان فيها “المشوي” سيّد المائدة.

يتبع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!