براءة الذّمة.. مما يحدث للأمّة
سألت علماء الأرض، وفقهاء السّماء، ثم لجأت إلى حكماء الطبيعة، وفلاسفة ما بعد الطبيعة، بحثًا عن فكّ لمعادلة الأمة الإسلامية، وما تعانيه من تشرذم فاق كل تصور، وتقاتل، وتنازع، وتنابز وصل إلى حد التهور، فلم أجد جوابا شافيا، ولا ردا كافيا.
فهل استعصى العقل المسلم، على مقدمات العلم، فعجزت عن استيعابه، وفشلت في تحليل كنه المسلم النفسي، والاجتماعي بفهم خطابه؟ وهل يختلف عقلنا المسلم، عن العقل الإنساني عموما في خطئه وصوابه؟
وإلا كيف سلمت المجتمعات الإنسانية من كل أعراض المهالك، وعواقب الظلم أو الظلام الحالك، ووقع المجتمع الإسلامي دون سواه، فيما لا تحمد عقباه؟
هل نحن، حقا، كما يصفنا أعداؤنا الإسلاموفوبيون، بأننا جنس غير قابل للتربية inéducable une race، وأن ديننا، الذي هو أفضل أديان البشرية، هو سبب ما نعانيه من أنواع الدنايا والرزية؟
يؤسفنا، أن نعترف، بأن ما يحدث في وطننا العربي، وأمتنا الإسلامية، من قتل الأخ لأخيه، وتنكيل الحاكم بمواطنيه، وانقلاب الضابط بالقوة على حاكميه، وصب كل أنواع الصواريخ، على الوطن وساكنيه. كل ذلك يمثل مقدمة خاطئة على مكونات العقل العربي المسلم، وأسلوب تعامله في الحياة، مع أعدائه ومقربيه.
فلحكمة نجهلها، ويعلمها الله، تلونت جغرافية الوطن العربي، وأجزاء الأمة الإسلامية، بسواد الحقد، وحمرة الدماء والقتل، واصفرار وجوه المواطنين، من الخوف والختل، فتحولت خضرة طبيعته إلى اصفرار، وزرقة بحاره إلى احمرار، فيا للعار!
لقد كنا نعلل النفس، بأن كل مشاكلنا مصدرها الاستعمار، وكل مخططات تقسيم بلداننا، هي من عمل الاستكبار، وما أبرى الاستعمار، ولا الاستكبار مما يحدث لنا من تفجير ودمار، ولكن الإنسان عندنا، حاكما ومحكوما، هو الأداة الغبية في التطبيق، والأسلحة النفسية في التحقيق، والتصديق.
فالذي يقتل في أفغانستان، وباكستان، هو بأيدي مواطني هذه البلدان، والذي يدك حصون ومباني اليمن، هو على أيدي أبناء الوطن، الفاقدين لكل أنواع الفطن، العاملين لتطبيق مخططات الأعداء، في زرع الفتن
وفي العراق، دم يراق، بسبب ألوان من الشقاق والنفاق، والقتل على الهوية والافتراق.
ولا من وازع علمي أو ديني، شيعي أو سني، فالكل يستعرض عضلاته، والكل يجند قواته وميليشياته، ودع عنك حديث الدولة الإسلامية، فإن هي إلا فتنة طائفية، ومكيدة أجنبية، الهدف منها تزهيد الناس في الاحتكام إلى الشريعة السمحة الإسلامية.
وعودة إلى بؤسنا وشقانا، بسبب ما يحدث في مصر الكنانة. إنها مأساتنا وملهانا، هي معركة –إذن– بين الشرعية واللاشرعية، وبين الحاكمية العسكرية والحاكمية المدنية، تبديدا لكل الطاقات الحية المصرية، والقضاء على النخبة الثقافية، الواعية، الوطنية. ونتساءل في حرقة وأسى، أين هم علماء مصر، وحكماؤها؟ وأين هم شعراؤها وأدباؤها؟ وأين هن حرائرها ونساؤها؟ وأين هم مواطنوها وشرفاؤها؟
هل يعقل أن يستسلم الجميع، للبطش والترويع؟ فتطلق أيدي الأمن لزرع اللاأمن؟ وأن يسود الخوف لدى المواطنين، فيزرع الشك حتى بين الأب والابن؟
نحن لا نريد –يشهد الله– أن ننتصر في شقيقتنا مصر، لفئة دون أخرى، فلا يهمنا، أن يحكم مصر الإخوان المسلمون أو الإخوان المسيحيون، ولا يعنينا أن يتولى الحكم هذا الحزب أو ذاك، إذا كان مزكى من الشعب المصري، كل الذي يعنينا بالدرجة الأولى، أن يحرص الحاكم في مصر، أيا كان لونه، على تحقيق الرفاهية والرفاه لكل المواطنين، وأن يتمتع بنتائج الديمقراطية، كل المتساكنين.
أما هذه الأحكام الجماعية بالإعدام، وهذا الزج في السجون بخير الأنام، فإنه والله، لمما يرفضه كل قانون لحقوق الإنسان، وواجبات الإسلام. إن مصر الكنانة، التاريخية الأبية البهية، تتسع لكل أبنائها، إن خلصت النية، فلا تضيق بالمسلم أو المسيحي، بل وحتى العلماني أو الحداثي، كلهم يجب أن تكون لهم مكانتهم المحترمة داخل النسيج المصري.
إنها وصمة عار، أن يحكم بالإعدام على العلماء، والوجهاء، والمنتخبين –حقا– من الرؤساء.. إن كل هذا هو زج بمصر، داخل أتون الفتنة العمياء، التي ستقضي على الأخضر واليابس، والمجرم والبريء، وسيبوء بإثمها كل من تحمّل مسؤولية فيها، بدءا بالمواطن الأبكم، وانتهاء بالقاضي، والحاكم، والعالِم، الأفهم، والأعظم.
وتعالوا بنا إلى ليبيا المهيضة الجناح، والمثخنة بالجراح، المطوقة بالأحزان والأتراح، إنها –والله– لتدمي القلب، وتغضب العبد والرب، بما تعانيه من قتل وسلب، وكل ذلك على أيدي أبنائها، وأي أبناء.
فلم يتقاتل الليبيون؟ وعلام يتآمرون؟ لقد ظلوا –لحقبة طويلة– يئنون من حكم الاستبداد، والعبث بمقدرات البلاد والعباد، واليوم! أين الاستبداد؟ أليس الربيع الليبي هو الذي تولى الحكم، فكيف استبدل الحرب بالسلم؟
إن الشعب الليبي، الذي عرفناه، هو من بين أطيب الشعوب في العالم، فكيف انحدر إلى هذا الدرك الأسفل من الانحدار والانحطاط؟
إنها معادلة عربية إسلامية يصعب فكها.. ولا نملك ونحن نعيش أجواء رمضان، الشهر الفضيل، إلا أن نتوجه إلى الله، بأن يكشف عن الأمة الغمة، وإننا نبرأ إلى الله، مما تعانيه أمتنا من أعراض الفتنة والمذلة.
فيا رب العزة!
لا تؤاخذنا، بما فعل السفهاء منا؟ وارفع مقتك وغضبك عنا، فإنا منا الصالحون ومنا المصلحون! وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون.. فارحمنا بفضل الشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والبهائم الرتع.