بشار التي رأيت
عقد المجلس الولائي لبشار، نهاية الأسبوع الماضي، ندوته الأولى في موضوع “التنمية المحلية”، وتزامن حدث الولاية مع الحركية التي تشهدها الجزائر في مجال تشغيل الشباب، والتي رفعت عدد الطلبات على قروض تشغيل الشباب في الولاية الجنوبية الغربية من الوطن الى 400 طلب يوميا، ما يعني أن مستوى عرض العمل يشكل في نفس الوقت مشكلة اجتماعية وفرصة للتنمية أيضا.
-
وحضر الندوة نخبة المجتمع البشاري من إطارات ورجال أعمال ومتعاملين اقتصاديين وأساتذة، ولكن حضرها أيضا والي الولاية وبعض مسؤوليها، وخرجت بتوصيات تخص قطاعات أربعة هي: الاستثمار العمومي، الاستثمار الخاص، التشغيل والسكن. فماذا أضافت الندوة للحوار الاقتصادي والاجتماعي لولاية عدد سكانها يقارب ربع سكان دولة قطر أو 3 بالمائة من سكان الامارات؟ وماذا تعني ولاية بشار على سلم المقدرات الاقتصادية والتنموية لأكبر دولة افريقية مساحة اسمها الجزائر؟
-
قالت الندوة
-
قال المشاركون في الندوة إن سهل “العبادلة” الذي يعد أخصب سهول الجنوب وكان يوما ما الرئة التي يتنفس بها سكان المنطقة في إنتاج الغذاء، أصبح عبئا على الولاية، بل أثرا بعد عين، بل موردا اقتصاديا مهملا، بل اسما على غير مسمى، وأن على الدولة إنشاء سدود صغيرة لحمايته من الاندثار. وفي بشار أزمة ري حقيقية، لأن سدا مائيا مبرمجا في الولاية لم ير النور بعد.
-
وتقع الولاية على بعد كيلومترات من الشقيق المغرب، حيث خطة حكومية لبناء السدود الصغيرة أثمرت تقدما زراعيا واستقرارا للسكان. وقالت الندوة أيضا إن لا مشروعا اقتصاديا منتجا أقيم على أرض الولاية على الرغم من غنى الولاية بالغاز والمعادن والنحاس، ولا أحد يعلم لماذا يتعطل مشروع إنتاج الإسمنت المبرمج، ولماذا تخلو الولاية من استثمارات عمومية، كما قالت الندوة بأن المشاريع الخاصة تعاني قيود الادارة، وأن لا أحد يجرؤ على الاستثمار في المنطقة على خلفية سجن أحد المستثمرين الكبار، والنتيجة ولاية كانت تسمى في عهد الاستعمار “كولون بشار” وتزخر بمدينة على طراز معماري لافت تعيش على الولايات الأخرى من حيث أسباب المعيشة مخلفة في كل سنة أعدادا من طالبي الشغل وخريجي المركز الجامعي عجزت آليات التشغيل على استيعابهم، بسبب عدم جاهزية الادارة للتكيف مع إجراءات الحكومة في هذا المجال، وبسبب ظروف تقنية سنأتي على ذكرها. وقالت الندوة بأن أرض بشار بها نبتة تكافح داء “البيوض” إن هي صنعت طبيا، وأن المركز الجامعي للولاية يشكل مشروع قطب علمي وصناعي حقيقي إن دعمت إدارته الناجحة بفرص بحثية جديدة، خاصة أن الأبحاث الزراعية المتطورة يمكنها إطلاق فرص التغلب على قيود السقي في بعض المنتجات الفلاحية كإنتاج الحبوب بدون ري مثلا.
-
أزمة العقار في صحراء بشار
-
تعاني سوق الشغل في بشار من ندرة العقار الصناعي لإطلاق مشاريع الشباب، وفي المدينة منطقة صناعية وحيدة لا أثر لها في مجال حفز النشاط، وتعاني مشاريع السكن هي الأخرى من ندرة العقار، مما أثر سلبا على وظيفة الترقية العقارية، ورفع حجم الفجوة في مجال السكن حتى اليوم الى 1700 وحدة سكنية قابلة للزيادة تحت ضغط التزايد السكاني.
-
ولا يندر العقار في بشار بسبب ندرته الطبيعية ما دامت الولاية تتربع غرب الصحراء الوسطى على أراض شاسعة، ولكن عجز السلطات عن التهيئة العمرانية واحتكار أملاك الدولة من طرف إدارة مركزية لا علاقة لها بانشغالات المواطنين، وعدم خضوع العقار لميزة السوق التنافسية جعل من ولاية بشار أغلى ولايات الوطن في سعر المتر المربع الواحد من الأرض، بل إن سعر العقار في أماكن من الولاية يفوق نظيره بالعاصمة وبعواصم عالمية أخرى وكأن المنطقة مركز تجاري أو سياحي عالمي كبير. والمطلوب حاليا تحرير الأرض من قيد الدولة والسماح بنشوء سوق ايجارية للمساكن، وتهيئة الصحراء للامتياز الفلاحي والصناعي والسكني على سلم السوق التنافسية، ورفع مستوى العرض، فمشكلة بشار ليس في الطلب الزائد كما يصور لسكانها ولكن في العرض الناقص، أي سوء ادارة الجيوب العقارية.
-
أبحاث في فائدة وزارة السياحة
-
زرت “تاغيت” وهي منطقة سياحية رائعة تبعد عن عاصمة الولاية بـ85 كيلومترا، فوجدت حضورا مميزا للموارد السياحة، ولكن غيابا كليا لوزارة السياحة التي عليها تثمين قصر تاغيت وترقية واحات المنطقة وجبالها الرملية، ويخلو القصر العتيق الذي يقصده سياح العالم من كل مكان من أي أثر للحكومة، ويستثمر فيه شباب لا علاقة لهم بصناعة السياحة في ايجار البيوت للزائرين لقاء 12 دولارا للشخص الواحد في اليوم الواحد، بطريقة لا توحي أن وراءها فكرة للجذب السياحي. ولا تضم ولاية بشار كلها سوى فندق واحد ونصف إذا صح هذا التعبير، ومطارها ليس دوليا حيث يعاني السائح الأمرين للوصول الى جوهرة الجنوب الغربي، وهناك في بني عباس متحف إفريقي للحشرات الصحراوية الأول من نوعه في القارة السمراء، ولكنه ملحق بجامعة باب الزوار ولا يشكل شيئا في المخزون الثقافي أو السياحي للمدينة ما دام يدار بصورة غير مهنية وغير معروفة.
-
وفي بشار قطار للسكك الحديدية استهلك من أموال الخزينة العمومية ما استهلك، ولكنه يسير بعربات القرن الماضي التي تنفر أكثر مما تجذب، ويقطع قطار بشار المسافة الى وهران في 12 ساعة، أي في مدة يمكن للشخص فيها أن يسافر الى جدة السعودية مرتين. ولا تتمتع بشار بمزايا مناطق الجنوب، مما رفع من كلفة الحياة الى حدودها القصوى، وأثر في وتيرة استقرار السكان، مظاهر من الحياة السياحية في بشار تجعلنا نتساءل عن جدوى الادارة، وجدوى الخطط، وجدوى الخطابات، وجدوى الميزانيات؟
-
المسؤول الذكي
-
لفت نظري حضور والي الولاية لأشغال ندوة بشار وتدخله أثناء النقاش، وتلك لفتة ذكية من ممثل الحكومة -المسؤول الأول عن الولاية- تحسب له، ووالي بشار الحالي شاب من جيل الاستقلال، ولذا أضفى على الولاية ديناميكية حقيقية وحراكا لم يكن مألوفا لدى السكان. وفي عهده برمج مشروع إطلاق 5 آلاف مسكن استوفيت شروطه التقنية والمالية، ووضع مخطط لإطلاق منطقة صناعية جديدة، وسجلت أفكار أخرى سترى النور إن شاء الله. ولكن والي الولاية لا يملك كثيرا من الصلاحيات في دولة تدار بالأوامر المركزية، مما يدفع الى التفكير في اصلاح الحكومة على سلم “اللا مركزية” الاقتصادية والتوازن الجهوي في صناعة القرارات، خاصة أن الدولة قطعت شوطا مهما على طريق “اللا مركزية” السياسية، وجاء خطاب رئيس الجمهورية الأخير حافلا بمبادئ الاصلاح ولو على سلم المشاركة السياسية.
-
لقد شاركنا والي ولاية بشار ندوة المجلس الولائي -وهي ندوة اقتصادية بامتياز- وفي ذلك إشارة ذكية من جيل الاستقلال بأن الدور القادم سيكون بين يدي مسؤولين جدد على قدر كبير من الفهم. سعدت بشار بمواردها الطبيعية والبشرية الكثيرة، وسعدت أكثر بأن يتحول ذلك كله الى مشاريع على الأرض.