الرأي

بناء دولة مؤمَّنة من عبث العسكر والمدنيين

حبيب راشدين
  • 1722
  • 10
ح.م

كان بوسع البلد أن يقصِّر من عمر الأزمة بالاستجابة السريعة لخيار تنظيم انتخابات رئاسية، تعيد إعمار مؤسسة الرئاسة بعد التوافق على اصلاح قانون الانتخابات، وإعادة تشكيل الهيئة المستقلة، ومنحها صلاحيات تنظيم الانتخابات، نذكر أنها كانت حاضرة ما بين إسقاط العهدة الخامسة والمناورة بالتمديد، كما كانت حاضرة في قلب مقترح مؤسسة الجيش بعد تفعيل المادة 102 لولا أن الحَراك وجانبا من المعارضة كانا عالقين بوهم المرحلة الانتقالية خارج الدستور.

الآن وقد حُسم تمديد المرحلة الانتقالية الدستورية يُفترض أن نتحرك بوتيرة أسرع لإعادة إعمار مؤسسة الرئاسة، والانتقال ببقية مطالب الحَراك من محض شعارات تُرفع كل أسبوع، إلى برامج حكم تنافسية، تعرض نفسها على عموم الناخبين من باب تجسيد المادتين السابعة والثامنة، وتحميل الرئيس المنتخَب مسؤولية فتح ورشات حوار وطني مستدام، يبحث في ملفات الاصلاح التي يحتاجها البلد، على رأسها إعادة تأهيل مؤسسات الحكم، والتأسيس بجدية لدولة الحق والقانون، وتضع اقتصاد البلد على سكة سليمة مؤمَّنة من الافتراس والفساد.

أمامنا أسئلةٌ كثيرة تحتاج إلى البحث، والتفكير، والإبداع، هي من مهام النخبة السياسية، تُخرجها من دائرة الشعارات إلى ساحة التطبيق، فالدولة المدنية التي يُرفع شعارُها اليوم كحل سحري تبقى مجرد شعار فارغ ما لم نحرِّرها من الأساطير، ورأس الأسطورة فيها الاعتقاد الفاسد أن إبعاد العسكر من دائرة صناعة القرار، واستلام المدنيين لزمام الأمر كفيل باصلاح أحوال البلد.

بوسعنا أن نكتفي بدور المقلد، ثم نستنسخ من التجارب المعاصرة نظام حكم تتداول فيه وعليه نخب سياسية مدنية عبر مسارات انتخابية تنافسية شفافة، تستمد شرعيتها من محفظة الوكالات التي تحصل عليها من الناخب، قبل أن تتفرد طيلة العهدة بالقرار، وتقصي صاحب السلطة التأسيسية من حق النظر في صناعة القرار وفي تقويمه، أو نغتنم فرصة إضعاف فعاليات الحَراك لنظام الحكم القائم، والبدء في بناء نظام حكم بديل، ننتقل فيه من خرافة “ملكية الشعب للسلطة التأسيسية” عبر التفويض النيابي الماكر، إلى نظام ينشئ سلطة تأسيسية دائمة للناخب تكون فوق السلطات التقليدية الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، يمارس الناخب من خلالها سلطة الرقابة والتقويم، والسحب الفوري للتفويض. وهذه ورشة إصلاحية تبقى مفتوحة، مثلها مثل ورشة تعزيز الفصل بين السلطات، بمنح استقلالية تامة للمؤسسة البيروقراطية التقنوقراطية، تسخِّرها بقية السلطات بالقانون والقانون وحده، وهي عندي أفضل وأولى حتى من استقلالية القضاء، لأنها الممر الحتمي لبناء دولة الحق والقانون.

سوف نكون مدعوِّين بعد حين إلى حسم خياراتنا من جهة نظام الحكم: رئاسي، أو برلماني، أو ما بين المنزلتين، لا نحتكم بشأنه إلى أهوائنا بقدر ما نختار أفضل نظام يحقق التعايش والتوفيق بين حاجة البلد إلى فترة طويلة من الاستقرار، وقيادة مسؤولة خاضعة للرقابة والمحاسبة، وهامش معقول من الحريات العامة، وحرية التعبير والإبداع والتنافس، مع ترجيح فرص صناعة التوافق بدل المغالبة الصرفة بسلطة الأغلبية.

وفي هذا البلد الشاسع القاري سوف نضطرُّ إلى التفكير من دون خوف في تقبُّل هامش واسع من اللامركزية في تدبير الشأن العام، باعادة توزيع الصلاحيات التنفيذية بين المركز وأقطاب تنموية جهوية تنافسية، تكون لها صلاحياتٌ واسعة في تنفيذ ميزانية الدولة بنجاعة أكبر من دروب التنفيذ المركزي المعوق للحركة، الغارق في البيروقراطية.

أسئلة كثيرة من هذا النوع ظلت مغيَّبة في الحياة السياسية وستظل، ما لم نغتنم ما وفره الحَراك من فرص الضغط على النخب، لنحملها على التفكير فيها بجدية، وتقديم أجوبة مقنعة لها تساعدنا على حسن اختيار الرئيس القادم على قدر استعداده لفتح ورشات تفكير لا تقصي أحدا من المساهمة في بناء دولة الحق والقانون التي تحرِّم العبثَ بالسلطة التأسيسية للناخب.

مقالات ذات صلة