-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
فلسطين في عهد الإجرام الصهيوني:

بين سَبيل المدافعة والمقاومة وسُبُل التطبيع والخيانة

د. حسين بوبيدي
  • 269
  • 0
بين سَبيل المدافعة والمقاومة وسُبُل التطبيع والخيانة

يقترب العدوان الصهيوني على غزة من إكمال شهره السادس، ونحن نستيقظ كل يوم على مشاهد مروّعة جديدة تعبِّر عن سياسة متجذرة في الإجرام، وتبيَّن لكل متابع أننا أمام هجمة وحشية مدعومة بقوى الظلم والاستكبار الغربي، ولم تؤثر المناشدات والمظاهرات والاحتجاجات والمرافعات في وقف هذه العملية البربرية التي هدمت المنازل على رؤوس سكانها، وأفنت عائلات كاملة، ونكّلت بالنساء والأطفال والشيوخ، ودمّرت المؤسسات الصحيّة والتعليمية والخدماتية، وأمعنت في تبيان وفائها للتعاليم التوراتية بالعمل على إفناء “الأمم”؛ في نزعة عنصرية فاضحة.

دولة الكيان قاعدة غربية متقدمة:

استفاد الكيان -ولا يزال- من تدفق الدعم العسكري والسياسي من العالم الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية التي نظرت إلى الحرب على أنها حربُها، وللمقاومة الفلسطينية على أنها أحد تمظهرات الرفض الفاعل لسياسة الهيمنة التي تحكم بها العالم وتُخضعه لإرادتها، وقد عبّر رئيسها –من دون مواربة- على أنه صهيوني يدافع عن الكيان؛ لأن وجوده في المنطقة ضرورة حتمية لاستمرار سطوة أمريكا وجبروتها، مؤكدا أن “إسرائيل” لو لم تكن موجودة لكان يجب إيجادُها وبعثها ودعمها لتكون القوة الأساسية المسيطرة.

وخلف أمريكا اصطفّت الدول الأوروبية بحسابات تتوافق وتتفارق لكنها تنتهي إلى التعاطي مع الكيان كممثل للغرب وقيمه وسياساته وخططه الإستراتيجية في مجال يُنظر إليه على أنه قلب العالم الإسلامي، الذي يدرك العقل الغربي أنه يخترن طوفانا من الرفض لواقعه وتسلط عدوه الحضاري عليه، وبعيدا عن التنظيرات الفلسفية التي تتحدث عن “عقدة الذنب الأوروبية” تجاه اليهود؛ وتحاول أن تفسر من خلالها مواقف ألمانيا وغيرها، فإن غياب أي صحوة ضمير أمام ما يحصل اليوم يبرهن أن ضمير أوروبا لم يستيقظ من قبل، وأنه حوّل اليهود من مشكلة تؤرقه إلى مخلب ينفذ سياساته.

إن القراءة التي تتأكد مع هذه الحوادث هي أن دولة الكيان الغاصب ليست سوى قاعدة متقدمة للعالم الغربي في مشرقنا، وهي موجودة ومستمرة ومتجبرة فقط بدعم الغرب وتواطؤ محيطها العربي؛ الذي شلّت إرادته بهزائمه العسكرية وضعفه الاقتصادي ومشاكله السياسية، ثم باتفاقيات التطبيع التي حوّلت دولة محتلّة من عدو إلى حليف استراتيجي انطلاقا من اصطفافات طائفية تخفي تحتها مصالحَ أسرية وذاتية، وهذا يدلّ على أن الكيان إنما يستمدّ قوّته         -حسب تعبير عبد الوهاب المسيري- من الدعم الغربي والخذلان العربي، وقد برهنت الولايات المتحدة الأمريكية من خلال مواقفها في مجلس الأمن الدولي، واستعمال “الفيتو” ضد أي قرار يهدف إلى وقف العدوان وإنهاء معاناة الفلسطينيين؛ على أنها الضامن لحرية التصرف الصهيوني الإجرامي، كما أكدت الدول العربية ضعفها وخنوعها، فهي عاجزة عن كسر الحصار عن غزة رغم دعوتها التي لم تتجاوز سقف القاعة التي اجتمعت فيها قياداتُها، وخائفة من الاستهداف الصهيوني لشاحنات المساعدات إذا لم تمرِّرها تحت نظر جند الاحتلال، دون أي نيّة في الرد أو التصدي له، وهكذا انتهينا إلى هذه الحالة من استفراد جيش تدعمه كل القوى الاستكبار العالمي بشعب أعزل محاصَر يدافع عن نفسه ببطولة استثنائية سيسجلها التاريخ بأحرف من ذهب؛ رغم حجم المأساة وفداحة الخسائر وفظاعة المشاهد.

وعي المقاومة بالمشروع الغربي الصهيوني:

إذا حاولنا أن نفهم كيف تفكر أمريكا في هذه الحرب فينبغي أن نستوعب ميراث الحرب العالمية الثانية، ثم نتائج انهيار المعسكر الشرقي واستفراد أمريكا بالقرار العالمي وتحكّمها في مؤسساته الدولية وتسخيرها لمصلحتها، فقد كانت القضية الفلسطينية مما ورثته أمريكا عن بريطانيا ضمن “انتقال الوصاية” على العالم العربي، ويتبين منذ قرار التقسيم الأثيم أن مخططات سايكس بيكو سنة: 1916 ووعد بلفور سنة: 1917 وتهيئة الظروف لإقامة وطن قومي للشعب اليهودي المخترَع من طرف المسؤولين البريطانيين، إنما هو مسلكٌ يتفق عليه الغرب بصرف النظر عن منفذيه، وتعبِّر هذه السياسة عن وعي العالم الغربي بالقدرات التي يختزنها العالم العربي لتحقيق نهضة شاملة إذا تحرر من نير الاستعمار، فكان لابد من رسم سياسات مستقبلية تمنع هذه النهضة، وبعيدا عن نظرية المؤامرة -التي تشلّ العقول عن التفكير- فإن غرس شعب متخيّل انطلاقا من سردية توراتية أسطورية لم يكن ليتحقق إلا بإرادة القوة الجبارة التي امتلكها الغرب في سياق تخلف كبير للعالم العربي والإسلامي، ولم يكن ممكنا لهذه السردية الساذجة أن تستمر لو لم تتواصل حماية الكيان الصهيوني ودعمه على مختلف الأصعدة، وهذا ما يجب أن يستوعبه المسلمون ليكفُّوا عن المناشدات، ويتحولوا إلى رسم استراتيجيات بعيدة المدى تفكر بالبدائل خارج سقف الوصاية الدولية.

إن الفهم العميق لدور الكيان هو الذي يدفع خط المدافعة والمقاومة إلى التمسك بمواقفه وعدم قبول تحقيق أي أنواع من التصالح مع مشروع يستهدف الأمة في جوهرها، فالإصرار على عدم الاعتراف بالكيان تحت أي ضغوط كانت هو إدراك للوجود الوظيفي له، وضرورة منعه من الانتقال إلى مرحلة الانغراس الكامل، ليتحول من السيطرة على فلسطين إلى الهيمنة على المنطقة، ويحوّل حلفاءه المزعومين إلى مجرّد منفذين لسياساته الرامية إلى التحكم في كل المنطقة، وتطويعها وكسر كل إرادات الرفض والمقاومة فيها، من خلال مشاريع الهيمنة الاقتصادية والاستدخال ضمن منظومته الرقابية على المجال، بالإضافة إلى التمييع الفكري وإعادة التشكيل الهوياتي، ونفي القوى الاجتماعية المعارضة إلى الهامش وحرمانها من وسائل القوة بمختلف أشكالها، والإطاحة بكل القيادات المقاوِمة أو سجنها ونفيها وتصفيتها، وهو ما يعبّر عن سياسات استعمارية بوسائل بديلة تنتمي إلى تاريخنا الراهن.

التطبيع دعمٌ لسياسات الكيان وتحالف معه ضد الأمة:

يتوافق هذا الهدفُ الصهيوني مع الأفكار التي عبَّر عنها قادة الكيان المؤسسون لهذا السرطان، ففي سنة 1948 وضمن المناقشات المتعلقة بحدود “إسرائيل” قال رئيس الوزراء: بن غوريون: “إن المثال الأعلى لأرض إسرائيل مفسَّر بوعد يهوه في الكتاب المقدس لموسى، الأب المؤسس الأسطوري للأمة، بأنها من نهر الفرات إلى نهر مصر، اليوم حدود فلسطين البريطانية الاستعمارية هي النقطة المرجعية، ولكن بشكل أكثر براغماتية، فإن الحدود تتحرك بحسب القدرة السياسية والعسكرية على حمايتها، وكما يقول الحاخام: أبراهام شابير: إن كل مكان تحضر فيه قوات الدفاع الإسرائيلية هو إسرائيل” (محمود ممداني، لا مستوطن ولا مواطن، ص: 358)، وبالتالي علينا أن نتيقن أن مدافعة المقاومة الفلسطينية لهذا المشروع هو دفاعٌ عن الأمة جميعا، وأن خذلانها ليس تقصيرا فقط، بل نكوصا عن مواجهة ضرورية وحتمية مع كيان استيطاني توسُّعي استغلالي.

لم تكن الأمة العربية والإسلامية أن تصل إلى هذا الحدّ من الغيبة الإستراتيجية إلا نتيجة لعوامل متراكمة، تحمل ميراثا ثقيلا يحتاج التفصيل فيه إلى تطويل لا يتحمله مقالٌ صِحافيٌّ، لكن هذا الرقم المهول لعدد الدول المطبِّعة (35 من 57 دولة عضو في منظمة التعاون الإسلامي، 7 من 22 دولة عضو في جامعة الدول العربية؛ بصرف النظر عن الدول الواقفة في طابور التطبيع) يؤكد أن هذه المنظمات تحولت إلى هياكل خاوية تحتاج إصلاحا عميقا، وأن الحسابات الخاصة للدول وتماهيها مع السياسات الغربية بحثا عن الاعتراف المرمّم لانعدام الشرعية الداخلية، والمساعدات المالية التي تُشترى بها الذمم، والترتيبات السياسية التي أعلت أوهام العروش على مصالح الشعوب؛ هي التي مكّنت الكيان من اختراق العديد من الأنظمة والأحزاب الوظيفية والأقلام المأجورة.

الرقم المهول لعدد الدول المطبِّعة (35 من 57 دولة عضو في منظمة التعاون الإسلامي، 7 من 22 دولة عضو في جامعة الدول العربية؛ بصرف النظر عن الدول الواقفة في طابور التطبيع) يؤكد أن هذه المنظمات تحولت إلى هياكل خاوية تحتاج إصلاحا عميقا.

لقد أضحت الأصوات الداعمة للتطبيع تمارس في كثير من الجرائد ومحطات التلفزة ومواقع النت دور “المحلِّل” للعدوان الذي يمعن في تجريم المقاومة، ويتبني السردية الصهيونية للحوادث، ويدعو إلى تصفية القضية الفلسطينية بدمج المحتل في الفضاء “الشرق أوسطي”، ويؤسس لخلق عدو طائفي يوجه إليه طاقات الأمة العربية تحت يافطات عنصرية ومذهبية كبديل للعدو الصهيوني، وهذه الأقلام المرتزقة المسمومة والأفواه الأثيمة المحمومة تقدِّم دائما وجهة نظرها على أنها المقاربة السياسية الواقعية، والرؤية المدرِكة للتحولات العالمية التي يجب الاصطفافُ فيها مع القوى القادرة على منح الحماية وضمان استمرارية التنمية في المدن العائمة على أموال الفساد، والقائمة على عقول أجنبية لا تملك من الولاء للدول التي تحتضنها إلا قدر ما تأخذه منها من الدولارات، وكثيرا ما تتماهى هذه الخطابات بشكل كامل مع المنظور الغربي للصراع، ولا تعدو كونها نقلا لرؤية الغرب إلى العالم العربي.

لقد حاولت دول التطبيع -كل في سياق توقيعها صكّ الخيانة- أن تقدّم خطوتها باعتبارها خيارا سياديا، يهدف ضمن أجندته إلى مساعدة الفلسطينيين عبر ترسيم علاقات التواصل مع المحتل وامتلاك أداة للضغط؛ متمثلة في الاعتراف ذاته، لكن العدوان الحالي فضح كل هذه الدعايات، فلم تفكر كل الدول المطبِّعة في أيِّ تراجعٍ عن خياراتها التي تبيَّن أنها موجَّهةٌ لأهداف مختلفة تماما عن آمال الفلسطينيين وحقوقهم، وهكذا بلغ الحال إلى إقامة طريق بري يعبر المجال العربي المطبِّع والقابل للتطبيع لأجل كسر حركة المقاومة اليمنية التي استهدفت الخطوط البحرية للكيان، وهذا ما يبرهن على أن التطبيع ليس مجرد خيار سياسي، بل عنوان لتغيير المواقع والانتقال من الصف العربي الإسلامي إلى الصف الغربي الصهيوني، وفي هذا السياق أستحضر الرأي الذي عبّر عنه د. نوري إدريس من أن هدف الكيان من التطبيع هو بالأساس تصفية القضية الفلسطينية، وأن الكيان هو الذي وضع شروطه وفي مقدِّمتها غضّ الطرف عن كل الممارسات التي يقوم بها لتحقيق هذا الهدف.

لقد أضحت الأصوات الداعمة للتطبيع تمارس في كثير من الجرائد ومحطات التلفزة ومواقع النت دور “المحلِّل” للعدوان الذي يمعن في تجريم المقاومة، ويتبني السردية الصهيونية للحوادث، ويدعو إلى تصفية القضية الفلسطينية بدمج المحتل في الفضاء “الشرق أوسطي”، ويؤسس لخلق عدو طائفي يوجه إليه طاقات الأمة العربية تحت يافطات عنصرية ومذهبية كبديل للعدو الصهيوني.

المخطط الغربصهيوني لتأبيد وصاية إسرائيلعلى المنطقة:

يراهن الاحتلال الصهيوني اليوم على خرق الصمود الفلسطيني من خلال البحث عن “امتدادت التطبيع والقابلية للاستعمار” في قطاع غزة، سواء من الزعامات المحلية، أو من المنضوين تحت قيادة حركات مطبِّعة، ولم تتغير لغة الاستعمار على مدى قرون في محاولاته تحقيق هذا الهدف، فهو يسلك مسلك الدعاية السياسية المواكِبة للإجرام الحربي، ويصنع واقعا متخيَّلا للمستقبل ليتمكن من اكتساب داعميه على الأرض من عرابي التموقع على حساب الضحايا، والمستعدين لبلوغ كرسي منغرس في أشلاء الأطفال والنساء والشيوخ، وفي الوقت ذاته تعمل أمريكا على تحريك عجلة التطبيع من جديد، وتهيئة قوة عربية تكلف بالإعمار ووضع اليد على مقدرات غزة والتحكم فيها تحت وصاية الاحتلال.

من يتأمل خطوات بايدن منذ إعلانه بناء ميناء عائم في القطاع؛ يتبيّن له أن أمريكا وبلدان التطبيع قد وضعت قدمها عسكريا واقتصاديا، لتتمكن لاحقا من جعل هذه القدم سلطة وظيفية مدعومة من محور التطبيع، وخاصة بعد أن تم تدمير مؤسسات القطاع المدنية، وهياكل الأنروا، ثم إيجاد وسيلة عملية للحث على حركة هجرة تُفرغ القطاع من قوته الديمغرافية.

من يتأمل خطوات بايدن منذ إعلانه بناء ميناء عائم في القطاع؛ يتبيّن له أن أمريكا وبلدان التطبيع قد وضعت قدمها عسكريا واقتصاديا، لتتمكن لاحقا من جعل هذه القدم سلطة وظيفية مدعومة من محور التطبيع، وخاصة بعد أن تم تدمير مؤسسات القطاع المدنية، وهياكل الأنروا، ثم إيجاد وسيلة عملية للحث على حركة هجرة تُفرغ القطاع من قوته الديمغرافية، وكل هذا مما يجب على أنصار المقاومة التصدي له، لكن ذلك لن يتم إلا إذا تحولنا من منطق الشجب والتنديد البائس الذليل إلى منطق التخطيط والتدبير وصناعة البدائل، هذه البدائل التي تحتاج مخيالا قادرا على تجاوز الأطر التي رسمها الاستعمار القديم وورثها عنه الاستعمار الجديد، ورسّخها بما يسميه “المنظمات الدولية” وقوانينها التي وُضعت خصيصا لحماية مصالح الغرب وديمومتها، ولكن السؤال الملحّ: أين هو هذا المخيال وأين أهله؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!