الرأي

تبديدُ الوَهْم الفرنسي في إفريقيا

ناصر حمدادوش
  • 1458
  • 0

ظلَّ حضورُ فرنسا قويًّا ومهيمنًا على مستعمراتها الإفريقية القديمة بأشكاله السِّياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، وهي التي بسطت سيطرتها على نحو 35 % من القارة السَّمراء (نحو 19 دولة إفريقية من أصل 54)، إذْ لم يكن هناك تاريخٌ لفرنسا في القرن العشرين، ولن يكون لها مستقبلٌ في القرن الواحد والعشرين دون إفريقيا، باعتبارها منجمًا ثريًّا وحديقةً خلفيةً لها، وبالرَّغم من الاستقلال الشَّكلي لهذه الدول منذ حوالي ستة عقود إلاَّ أنَّ فرنسا ظلَّت هي المتحكِّم الفعلي فيها، وقد اعتمدت في إدارة استعمارها الجديد والخفي على محورين:

1- غزو الثقافة الفرانكوفونية: وهي من أهمِّ الأسلحة النَّاعمة التي تحكَّمت بها فرنسا في وعي الشُّعوب الإفريقية، واعْتَلت بها منصة الصدارة الثقافية والتعليمية فيها كامتدادٍ للاستعمار القديم، فهي الرِّئة التي تتنفَّس منها في التكوين الثقافي والأكاديمي والوظيفي لها.   وتعدّ اللُّغة الفرنسية -غنيمةَ الحرب بالنسبة للفرانكوفونيين- الأداة السِّحرية للإرث الاستعماري، فهي تكتسي بُعدًا أكثرَ من مجرد اللُّغة وأهمَّ من الثقافة وأعمق من الاقتصاد، فهي الرِّهان الاستراتيجي الحيوي لها.

ومن أهمِّ مؤسَّسات هذا الاستعمار الثقافي الجديد: المنظمة الدولية للفرانكوفونية، التي تأسَّست سنة 1970م، وبلغ عدد المنتمين إليها سنة 2014م: 80 دولة بين عضوٍ ومراقب، وكان هدفها الاستراتيجي هو تأبيد الوجود والنفوذ الفرنسي، إذ كانت نحو 27 دولة إفريقية تعتمد اللغة الفرنسية رسميًّا كأداةٍ للنفوذ الثقافي على حساب لغاتها الأمِّ، وهو ما جعل منها أكبر فضاءٍ للفرنسية خارج فرنسا.

وبالرَّغم من الأهداف الأخرى المعلنة للفرانكوفونية، مثل: دعم السَّلام والديمقراطية وحقوق الإنسان، وترقية التعليم والتكوين والتعليم العالي والبحث العلمي، وخدمة التنمية المستدامة، والسَّعي إلى نشر الخدمات الأساسية في مناطق متعدِّدة من الفضاء الفرانكوفوني، إلاَّ أنَّها لم تفلح إلاَّ في فرض التبعية السِّياسية والاقتصادية والثقافية لفرنسا، وأنَّ الفرنسية لم تكن إلاَّ مُنتَجًا ثقافيًّا لفرنسا، مسيئةً لِلُغةِ وثقافة وأديان هذه المستعمرات، مع أنها قد أصابتها الشيخوخة، وتآكلت مضامينها العلمية والثقافية.

2- التبعية الاقتصادية: وهي نوعٌ من النَّهب الفرنسي الممنهج، إذْ فرضت فرنسا عملة “الفرنك الإفريقي” على 14 دولة إفريقية، بما جعلها مرتبطة عضويًّا بالاقتصاد الفرنسي، وأنَّ 85 % من اقتصاديات هذه الدول تحت رحمة البنك المركزي الفرنسي، وأنَّ: 50 % من احتياطاتها مودعةٌ في البنوك الفرنسية (نحو 500  مليار دولار سنويًّا من الأرباح والعوائد القادمة من إفريقيا).

ما جرَى في “مالي” من تحوُّلاتٍ متسارعةٍ هو النموذج الأكثر وضوحًا لهذا الانهيار الفرنسي في مستعمراتها التقليدية، إذْ اعتبرت السُّلطة الجديدة -المدعومة روسيًّا- هذا الوجود الفرنسي انتهاكًا صارخًا للسِّيادة الوطنية، ومحاولةً لتقسيم مالي، ودعمًا للجماعات الإرهابية، فبدأت بسلسلةٍ من الإجراءات لفكِّ هذا الارتباط، وفسخ كلِّ الاتفاقيات الدفاعية مع باريس، والمطالبة بانسحاب كلِّ القوات الفرنسية منها، وهو ما تمَّ فعليًّا منتصف أوت 2022.

ويُعدُّ الفرنك الإفريقي -الموروث عن الفرنك الفرنسي المنتهي الصلاحية في فرنسا ذاتها – مأساةً اقتصاديةً حقيقيةً، والذي تُحدَّد قيمته من البنك المركزي الفرنسي، وهو ما دفع بعض الدول الإفريقية، مثل “كوت ديفوار” و”البنين” عام 2019م إلى التخلِّي عنه، واستبداله بعملة “الإيكو” المستقلة عن باريس، وهو ما يمكن اعتباره بداية التراجع الفعلي لنفوذ فرنسا.

لا تزال بعض المستعمَرات الفرنسية القديمة تواصل نضالها المقدَّس ضدَّ النفوذ الفرنسي المذلِّ لها، وهي تعتقد أنه لابد أن تدفع فرنسا ثمن تاريخها الدموي في الماضي، وثمن استعلائها الاستعماري في الحاضر، ومسح عار ذلك الاستقلال المنقوص أو المشروط لها، إذْ لا تزال فرنسا مدمنةً على النظرة الفوقية التي تفوح بالحقد العنصري الأسود، في محاولاتٍ مستميتة لإدامة المخيال الاستعماري، وهي تكابر بعدم القبول بالتواضُع أمام بعض هذه الدول الإفريقية الصاعدة، التي طالما احتقرتها طويلاً.

ومع أنه ليس مطلوبًا من فرنسا أن تُسلِّم بأنَّها تخسر إفريقيا شيئًا فشيئًا، وبالرَّغم من استماتة بعض النُّخب الفرنكوفونية المتغرِّبة في المحافظة على عبوديتها لفرنسا، إلا أنَّ إراداتِ الشُّعوبِ الحرَّة لا تزال تقاوم هذا الإدمان على هذه التبعية، وتقف في وجه محاولات تأبيد هذا النفوذ الفرنسي.

وما جرَى في “مالي” من تحوُّلاتٍ متسارعةٍ هو النموذج الأكثر وضوحًا لهذا الانهيار الفرنسي في مستعمراتها التقليدية، إذْ اعتبرت السُّلطة الجديدة -المدعومة روسيًّا- هذا الوجود الفرنسي انتهاكًا صارخًا للسِّيادة الوطنية، ومحاولةً لتقسيم مالي، ودعمًا للجماعات الإرهابية، فبدأت بسلسلةٍ من الإجراءات لفكِّ هذا الارتباط، وفسخ كلِّ الاتفاقيات الدفاعية مع باريس، والمطالبة بانسحاب كلِّ القوات الفرنسية منها، وهو ما تمَّ فعليًّا منتصف أوت 2022م، أي أنَّ هيمنة فرنسا على مستعمراتها الإفريقية السَّابقة قد دخلت مرحلة الأفول واللاَّ رجعة.

وتدرك فرنسا أنَّ خسارتها لإفريقيا تدريجيًّا لا تعود إلى مواقف الأنظمة السِّياسية العميلة لها، بل ترجع في حقيقتها إلى خسارتها للرأي العام عمومًا، إذْ أصبحت الهوَّة عميقةً بين الشُّعوب الإفريقية والسِّياسات الرسمية الفرنسية، إذ تجاهلت فرنسا تطلعات هذه الشُّعوب، واستهانت بالتقارب معها، وركَّزت على توطيد أركان الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة والفاشلة.

لقد انتبهت قوى دولية أخرى إلى هذه الكراهية المستحكمة للأفارقة اتجاه الغرب عمومًا، واتجاه فرنسا خصوصًا، فقدَّمت نموذجًا بديلاً في العلاقات المحترمة مع هذه الدول، فتفادت الرِّهان على العلاقات الفوقية الاستعلائية مع الأنظمة الحاكمة، واتَّجهت إلى التعاون معها من أجل المصالح الحقيقية المتبادلة، بينما استمرَّت فرنسا في النوم في وَهْم العسل بصيغ العلاقات التقليدية، ولم تشتغل على مراجعتها وتطويرها على أساس السِّيادة الكاملة، والمصلحة المشتركة، والاحترام المتبادل.

إنَّ تصدُّع جدار هذا الوَهْم يمثِّل بداية النِّهاية للنُّفوذ الفرنسي، وأنَّ ما حدث فعليًّا من ذلك التحرُّر الفعلي والكلي عن فرنسا في بعض الدول لفَت نظر دولٍ أخرى إلى هذا الإمكان من تبديد الوَهْم الفرنسي، وإمكانية بناءِ علاقاتٍ إستراتيجيةٍ مع قوى دولية أخرى خارج هيمنة السَّقف الفرنسي.

هناك عدوى متنقِّلة بين الدول الإفريقية ضدَّ هذا النُّفوذ الفرنسي، وأنَّ ملامح التراجُع الفرنسي في إفريقيا أصبحت واضحةً للعيان، ومنها: انهيار المنظومة العسكرية الفرنسية بالسَّاحل، والمنافسة الصِّينية، الرُّوسية والتركية لفرنسا في أفريقيا، وأنَّ هناك أسبابا حقيقية لتراجع النُّفوذ الفرنسي، ومنها:

كما أنَّ المبادلات التجارية بين تركيا وإفريقيا قد بلغت سنة 2020م نحو 186 مليار دولار.

إنَّ فرنسا لن تسلِّم بتراجع نفوذها في إفريقيا، وستقوم بكلِّ ما تستطيع من أجل الإدمان على وجودها، ولو بإذكاء الصِّراعات وإثارة الفتن وإشعال الحروب، موظِّفةً ما تبقى من دوائر التبعية والعبودية، وهو ما يفرض على النخب الوطنية الواعية في هذه الدول المزيدَ من اليقظة والإصرار على التحرُّر الكلِّي والفعلي من النفوذ الفرنسي، كما يفرض على الدول المتشبِّعة بالفكر التحرُّري، مثل الجزائر أن تمدَّ يد الحرِّية والتنمية لها، والتي تعتبر امتدادها الطبيعي وعمقها الاستراتيجي.

مقالات ذات صلة