الرأي

ترتيب الأولويات لعبور عين الإعصار القادم

حبيب راشدين
  • 2165
  • 7
أرشيف

مع توديع شهر رمضان المبارك، وربما توديع الحجر الصحي، سوف تواجه حكومات البلدان النامية صعوباتٍ كثيرة في التعامل مع مخلفات الجائحة وآثار الإغلاق، تشغلها عن التعامل العقلاني مع الأزمة الاقتصادية العالمية، التي لم تعد مجرّد فرضية مستشرَفة، بل حقيقة قائمة، لسنا محضَّرين لمواجهتها بما تحتاجه من رؤية واضحة، ومن ترتيب للأولويات، والقدرة على التجنيد السريع للموارد، وخاصة المراهنة على الوحدة والاستقرار، وعلى الحد الأدنى من الإجماع الوطني.

وفي الحالة الجزائرية، نحتاج أكثر من غيرنا إلى التكفل السريع بالتداعيات الأولى للأزمة الاقتصادية العالمية المقبلة، التي رهنت حتى الآن أكثر من نصف عوائدنا المالية، مع انهيار أسعار المحروقات، وقصور الاقتصاد الوطني في تعويض عوائد النفط بصناعة غير مؤهَّلة للتصدير، وفلاحة لم تُمنح الفرص الكافية لتحقيق الاكتفاء، وتقليص فاتورة الاستيراد، ثم المساهمة بسهم أكبر في التصدير.

وحتى الآن، لا نلمس فيما بادرت به الحكومة من قرارات في سياق تنويع الاقتصاد، أي مؤشر عن وجود نظرة مستقبلية واضحة، ومرجعية مدروسة لخطوات إخضاع الاقتصاد الوطني لثورة حقيقية، تؤهّله لمواكبة التحوّلات القادمة، تأخذ بعين الاعتبار ما نمتلكه من مقدرات، وما يسمح به التقسيمُ العالمي القادم للعمل.

وإذا كان من الواجب التنويه ببعض القرارات الإيجابية التي اعتمدها رئيس الجمهورية، خاصة من جهة تجنيب البلد اللجوء إلى المديونية الخارجية، وإخضاع الإنفاق الحكومي إلى حمية صارمة، فإنّ بعض القرارات التي اعتمدتها الحكومة، تتعارض بوضوح مع هذا التوجّه، مثل قرار العودة إلى استيراد السيارات الجديدة والمستعمَلة، الذي هو محض هروب من مسؤولية إصلاح ما أفسدته العصابة في مشاريع تركيب السيارات، وكثير من الصناعات الكهرومنزلية، والإبقاء على قدر من الضبابية، حيال ملف التجارة الخارجية التي تحتاج إلى مراجعة عميقة وصارمة، توقف استمرار استنزاف ما بقي من موارد مالية.

حتى الآن، لا نعلم ما الخيارات التي سوف تعتمدها الحكومة للتعامل مع تراجع حصّتنا من السوق الغازية في جنوب القارة الأوروبية، ولا مع تراجع الطلب العالمي على المحروقات، ولم تشجِّع المتعاملين الرئيسيين في مجال الطاقة: سوناطراك وسونالغاز على تنفيذ إعادة هيكلة سريعة، تمكِّنهما من بناء شراكات دولية في مجال البتروكيميائيات والطاقات المتجددة، تنقلنا من دولة مصدِّرة للنفط والغاز، إلى بلدٍ مصدِّر للمنتجات البيتروكيميائية وللطاقة الكهربائية.

وفي هذا السياق، لا يبدو أن الحكومة قد درست بما يكفي من الجدية خيار الانتقال الطاقوي، باعتماد مشروع إنتاج 4000 ميغاوات من الطاقة الشمسية بتقنية “الفوتوفولتاييك”، كنسخة مصغرة لمشروع “ديزيرتيك”، متجاهلة تكنولوجية الطاقة الحرارية للطاقة الشمسية، في بلدٍ يتوفر على مخزون هائل من الطاقة الحرارية، مع التفكير الجاد في تعشيق إنتاج الطاقة الحرارية مع صناعة تحلية مياه البحر، واستغلال حصتنا من بحيرة المياه الجوفية بالصحراء الكبرى.

في أكثر من عمود سابق، ذكّرتُ أصحاب القرار بحاجة البلد إلى تصوُّر اقتصادٍ وطني تجرُّه ثلاثُ قاطرات: الطاقة البديلة، والمياه، والفلاحة، وهي قطاعاتٌ منتجة لطيفٍ واسع من الصناعات والخدمات من المنبع إلى المصب، ولها سوقٌ عالمية مفتوحة، غير مرتهنة مثل النفط بتقلبات العرض والطلب.

الذهاب إلى هذا الخيار الذي نمتلك له الموارد المادية والبشرية، وله سوقٌ دولية متنامية، يحتاج إلى قرار سياسي لا لبس فيه، يوجِّه أغلب موارد الدولة ومقدراتها إلى هذه القطاعات الثلاثة القاطرة للاقتصاد، وبناء نموذج اقتصادي جديد، تتجمّع فيه فوائض القيمة المُنتجة في ما نصدِّره مستقبلا، من كهرباء ومواد غذائية مصنَّعة.

ولأننا بحاجة إلى تجنيد سريع للطاقات والكفاءات كأولوية لا تقبل التسويف، فإنه يحسن بأصحاب القرار إعادة النظر في ترتيب الأولويات، وإرجاء مشروع تعديل الدستور الذي لم يعد أولوية ملحّة، وقد يشعل من حيث لا نحتسب بؤر فتنة، نحن اليوم في غنى عنها، وقد نكتفي في هذه المرحلة بتعديل جزئي، يُمرَّر على مستوى البرلمان لسدِّ بعض الثغرات، من دون المساس بملفات الهوية ولا بتوزيع السلطات، التي تكون مستقبلا محلَّ تعديل واسع، يُمنح ما يحتاجه من الوقت والنقاش الهادئ بعد خروج البلد من عين الإعصار القادم.

مقالات ذات صلة