الرأي

تسويغ الخرافة نكايةً بالوهّابيين!

سلطان بركاني
  • 2233
  • 13

تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، حسابات وصفحات كثيرة متخصّصة في الردّ على الطّائفة المدخلية، بعِلم ودليل وإنصاف، وبيان تهافت كثير من أصولها التي تزعم أنّها من أصول السنّة ودعائم المحجّة، خاصّة ما تعلّق منها بالتعامل مع ولاة الأمور، وتتبع أخطاء العلماء والدعاة والمصلحين، ونقد الجماعات والتحذير منها، كذا التعامل مع المسائل الخلافية الجزئية.. كما تكشف هذه الصّفحات تناقض دعاة هذه الطّائفة في تطبيق أصولهم على ولاة الأمر، وعلى العلماء والدّعاة.

لكن بإزاء هذه الصّفحات المنصفة، هناك صفحات أخرى جانب المشرفون عليها العدل الذي أمرنا به في قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون)) (المائدة، 8)؛ حيث جعلت الردّ على “المداخلة” عكازا اتّكأت عليه لتخوض معارك أخرى غير عادلة في مجملها، مع من السلفيين والوهابيين والتيميين والباديسيين! بقليل من الحقّ وكثير من الباطل؛ فلم تكتفِ بردّ ما خالف فيه “المداخلة” صريح النّصوص وصحيحها وشذّوا فيه عن جمهور الأمّة، وما شدّدوا فيه، بل تمادت إلى إنكار ما عند “المداخلة” من الحقّ والصّواب، واضطرّت إلى التنقيب عن الروايات التي تمثّل الاستثناء ولا تمثّل الأصل، والتفتيش عن الأقوال والآراء الشاذّة، لتجعلها أصلا أصيلا خالفه المداخلة والوهابيون والتيميون والباديسيون! وهي بذلك تقع فيما تنكره الأمّة على “المداخلة”.

صحيح أنّ بعض “المدخليين” وسّعوا دائرة الشرك، ومنهم من سوّى بين الاستغاثة بغير الله وبين التوسل إليه بخلقه، وغلا بعضهم في منع التبرّك، وتوسّع من توسّع منهم في شرك الألفاظ حتى زعم أحدهم أنّ قول بعض الجزائريين “تصبّ النّو” إشارة إلى نزول المطر، من شرك الألفاظ! لأنّ النبيّ نهى عن قول: “مطرنا بنوء كذا وكذا”..
وصحيح، كذلك، أنّ بعض المدخليين أحيوا الجدل في صفات البارئ سبحانه وخاضوا فيها وجنحوا إلى الغلوّ في الإثبات بما يوهم التشبيه.. وصحيح أيضا أنّ بعضهم حاربوا التصوّف دون تمييز بين غثّه وسمينه، واتّهموا المتصوّفة –دون استثناء- بالعمالة للاستعمار.. وصحيح أنّ بعض من يُنبزون بـ”الوهابية” أطالوا قائمة البدع وتوسّعوا في التبديع حتّى بدّعوا المخالفين في الفروع!…

كلّ هذا صحيح، لكنّ بعض المناوئين لـ”المداخلة” ولِمن يُسمَّون بـ”الوهابيين” عامّة، لم يكتفوا بالردّ عليهم في هذه المسائل، حتّى عاندوهم في مسائل أصاب فيها الوهابيون الحقّ، وأصرّوا على مخالفتهم في قضايا ومسائل، الخلاف فيها ضعيف، والنّصوص فيها صريحة، وعمل سواد الأمّة فيها يكاد يكون في اتّجاه واحد، ولَيتهم وقفوا عند المعاندة في الخلاف، لكنّهم وقعوا في أكثر ما يجرَّم به المداخلة؛ فطعنوا في كثير من العلماء العاملين ولمزوهم ونبزوهم، حتى بلغ بهم الأمر إلى الطّعن في أعلام من وزن ابن تيمية وابن القيم والشوكاني ورشيد رضا، رحمهم الله، وحتى ذمّوا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وألصقوا بها تهمة الوهابية، وخطّؤوا إجماع الجزائريين على احترام رموزها وتثمين جهودهم في محاربة الخرافة والعُقد القبورية..

أنكر هؤلاء المناوئون على المداخلة الوهابيين طعنهم في بعض علماء الصوفية، فوقعوا فيما أنكروه عليهم، وأسّسوا لمدخلية صوفية، يبرأ منها علماؤنا وسادتنا من الصوفية، لا تقلّ شططا عن المدخلية السلفية أو المدخلية الوهابية، وأعطوا بشططهم الدّليل على أنّ “المدخلية” ليست طائفة، إنّما هي فيروس لم تكد تسلم منه معظم الجماعات الإسلاميّة.

نكاية بالوهابية، سوّغ مداخلة المتصوّفة الاستغاثة بغير الله وطلب الرزق والمدد والفرج والشفاء من الأئمة والأولياء الصالحين، ودافعوا عن مظاهر الطّواف بالقبور والتمسّح بأعتابها وتقديم النّذور لساكنيها، حتّى قال قائلهم نكاية بمحمّد بن عبد الوهّاب: “وينبغي اليوم في هذا الوقت من الحوادث التي حدثت من الثلم في الدين باعتقاد العامة قول البدعي –يقصد المبتدع محمّد بن عبد الوهاب- أنّ الاستغاثة شرك، فالعالم والمقتدى به ينبغي له أن يظهر الاستغاثة ليقتدى به…” ولم ينتبه إلى أنّه بتعصّبه هذا قد شابه أقواما قالوا من قبل: ((أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ))، وإن كان ليس منهم.

كما برّر المناوئون للوهابية الشطحات والرقصات و”التهويلات” الصوفية، وتوسّعوا في مشروعية التبرّك ودافعوا عن تبرّك المريدين ببصاق مشايخهم وعن كثير من المظاهر التي تسيء إلى دين الله الحقّ، وتصدّ العقلاء عنه.
لقد أخذتهم العزّة بالخطأ في مسألة الاستغاثة بغير الله، نكاية بالوهابية، فراحوا ينقّبون في كتب السّنن والمسانيد وفي كتب السير، عن نصوص هنا أو هناك يظنّونها تسعفهم في إثبات جواز الاستغاثة بالأموات، ومشروعية طلب الحاجات منهم، والمرابطة عند قبورهم، بحجّة أنّ السائل يعتقد أنّ الله هو من يرزق ويمنح! مع أنّ هذه الأفعال جاءت نصوص القرآن والسنّة غزيرة ومتظافرة وصريحة في إنكارها والنهي عنها وتقريع من يفعلها مهما اعتقد أنّ المخلوقين لا يتعدّى دورهم الشّفاعة، وفي الترغيب في ضدّها والحثّ على إخلاص الدّعاء والرّجاء لله وحده.. يقول الحقّ سبحانه: ((وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون))، ويقول الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: ” إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله”، ويقول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: “… واعلم أنّ الذي بيده خزائن السّماوات والأرض قد أذن لك في الدّعاء وتكفّل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه” (نهج البلاغة).

مهما طال النّقاش في مسألة الاستغاثة، فإنّ المنصفين والعقلاء يقرّون بأنّ منع الاستغاثة بالأموات هو الأحوط والأفضل والأنفع؛ فكلّ من يذهب إلى تسويغ الاستغاثة بالأموات على أساس أنّهم مجرّد وسطاء، يعترف بأنّ الاستغاثة بالحيّ القيوم أفضل وأحوط، ومن يقول إنّ الدّعاء عند القبور والمزارات عمل صالح، يقرّ بأنّ الدّعاء في بيت الله وفي أوقات الإجابة أفضل وأنفع.

لقد رام مداخلة الصّوفية إغاظة الوهابية، لكنّهم لم ينتبهوا إلى أنّهم يصدّون عن سبيل الله، بإصرارهم على تسويغ مظاهر ما عاد لها أيّ مسوّغ عند شباب الأمّة في هذا الزّمان، بل ربّما تكون سببا في صدودهم عن دينهم، وتسويتهم بين دين الله الحقّ وبين الأديان والديانات الباطلة التي تغري أتباعها بتعظيم المخلوقين، بل قد يصل الأمر ببعض الشّباب إلى الزّهد في الدّين والتحلّل منه بالكلية، بحجّة أنّه دين يدعو إلى تقديس الأموات والقبور والشّيوخ، ولا يصلح لزمن غزو الفضاء.

شباب الأمّة في هذا الزّمان، إذا ما رأوا من يدعو الله الواحد الأحد وهو متهاون في اتّخاذ الأسباب، قالوا له: “السّماء لا تمطر ذهبا ولافضّة”، وربّما استهزأوا به، كيف بمن يدعو عند القبور ويسأل عندها شفاء سقم أو قضاء دين أو حصول رزق من مال أو ولد؟!

مقالات ذات صلة