الرأي

تقدم المسلمين بين الوحي والعلوم التجريبية

رشيد بركات
  • 1125
  • 24

لقد انتصر منهج العلوم التجريبية على منهج الكنيسة عقب الصراع حول أيهما أحق في فهم الظواهر الكونية واستخراج قوانينها وتفسيرها تفسيرا صحيحا بعيدا عن الخرافات، ويشهد لانتصار العلوم التجريبية التقدم الكبير الذي تتمتع به الدول الغربية في مناحي الحياة الدنيوية نتيجة اعتمادها على تلك العلوم.
في المقابل، نلاحظ أن المسلمين قد أصابهم “مرض” العجز عن إصلاح حالهم الدنيوي والتصدّي للتحديات التي تواجهها متطلبات معيشتهم، ونتج عن ذلك ـ كما هو ظاهرـ تخلّفهم في أغلب ميادين ومجالات الحياة الدنيوية كالميدان العمراني أو التكنولوجي أو الاقتصادي أو الصناعي أو الزراعي وغيرها، ويمكن إرجاع سبب ذلك إلى إهمال علماء المسلمين دور الحواس والعقل في تأدية كل منهما وظيفته في مجال فهم سنن الله في الكون والإنسان والمجتمعات والاستفادة منها في جلب منافع دنيوية لهم وتحسين ظروف معيشتهم.
ولم يتوقف خطأ المسلمين عند هذا الحدّ، بل تسرّب إليهم اعتقادٌ أن طريق تقدمهم المادي وتحسين ظروف حياتهم ومعيشتهم من الواجب البحث عنه في القرآن الكريم، وما جاء في توجيهات الرسول الكريم، والحق أن هذا الفهم خاطئ ويعتبر أهمَّ سببٍ في استمرار تخلفهم؛ فليس الوحي برنامجا للتنمية البشرية ومشروعا لتحسين ظروف معيشة المسلمين، بل وظيفة ذلك منوطة بالحواس والاجتهاد العقلي، وليس أكبر دليل لتأكيد خطأ هذا الاعتقاد هو ما نلاحظه عن المجتمعات الغربية فإنها لم تأخذ في مسيرة تقدمها الدنيوي من عقائد وأحكام أديان أو فلسفات سماوية أو بشرية ولا حتى عن الإسلام، فضلا أن تدَّعي ذلك، بل سلكت طريق العلوم التجريبية التي تعتمد على الحواس والعقل.
والمؤسف أن هذا الاعتقاد السائد في أوساط الكثير من المسلمين مخالف لتوجيهات نبيهم صلى الله عليه وسلم، أليس هو القائل لهم “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، فقد جاء في صحيح مسلم عن ثابت عن أنس: أن النبي مَرَّ بقوم يلقحون أشجار النخل فقال “لو لم تفعلوا لصلح” فخرج شيصا ولم ينضج في ذلك العام، فمرّ بهم الرسول صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال “ما لنخلكم؟” قالوا: قلتَ كذا وكذا، قال “أنتم أعلم بأمر دنياكم”.
وحتى لو جاء هذا التوجيه النبوي في معرض الكلام عن أمر في مجال الزراعة فيمكن القياسُ عليه كل المجالات الدنيوية الأخرى، والتي تدخل ضمن ما يقوم به الإنسان من تجارب بقصد تحصيل نفع في مأكله وملبسه ومسكنه ومركبه وبدنه، فتشمل الأمورَ الطبية والصناعة والتجارة والنقل والتدابير الفنية في الحروب وغيرها، فهذا الحديث يعتبر توجيها لهم للاعتماد على تجاربهم الحسية وعقولهم لتحسين ظروف معيشتهم وتقدمهم الدنيوي دون ما جاء به من الوحي.
وكما يلاحَظ، فحتى الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعتقدون أن كل أقوال وتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم وحيٌ من الله ما جعلهم يمتنعون عن تلقيح النخل لمجرد رأي رآه صلى الله عليه وسلم، فبيَّن لهم واجب تفريقهم بين ما يقوله إخبارا عن الله تعالى ودينا وشريعة وبين ما يقوله برأيه في مجال العلوم والأمور الدنيوية، قال الإمام ابن تيمية “وهو صلى الله عليه وسلم لما رآهم يلقحون النخل قال لهم “ما أرى هذا” يعنى شيئا، ثم قال لهم “إنما ظننتُ ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله فلن أكذب على الله” وقال “أنتم أعلم بأمور دنياكم فما كان من أمر دينكم فإليَّ”، وهو لم ينههم عن التلقيح لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم” مجموع الفتاوى 18/12.
كما يجب تحميل مهمة التقدم الدنيوي وتحسين مستوى وظروف معيشة الناس لعلماء الطبيعة والعلوم التجريبية وليس للعلماء المتخصصين في العقيدة أو الفقه أو أحكام الشريعة، لثبوت تفوّق أولئك على هؤلاء في هذه المهمة، فقال الإمام ابن القيم في معرض رده على من يظن أن تأويلات المتخصصين في العلوم الدنيوية صحيحة لتفوّقهم فيها على غيرهم أن الله سبحانه قد يعطي أجهل الناس به وبأسمائه وصفاته وشرعه من الحذق في العلوم الرياضية والصنائع العجيبة ما تعجز عنه عقولُ أعلم الناس به تعالى ومعارفهم، وقد قال النبي “أنتم أعلم بدنياكم” وصدق صلوات الله وسلامه عليه، فإن العلوم الرياضية والهندسية وعلم الأرتماطيقي والموسيقى والجغرافيا وإيرن، وهو علم جرّ الأثقال ووزن المياه وحفر الأنهار وعمارة الحصون وعلم الفلاحة وعلم الحميات وأجناسها ومعرفة الأنوار وألوانها وصفائها وكدرها وما يدل عليه وعلم الشعر وبحوره وعلله وزحافه وعلم الفنيطة، ونحو ذلك من العلوم هم أعلم بها وأحذق فيها، وأما العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك فإلى الرسل” الصواعق المرسَلة 445.
إن العلوم الدنيوية هي علوم لا تختص بأصحاب ديانة من الأديان بل التفوق فيها يكون لكل من سلك طرق حصولها، أما من جهة أي العلوم أفضل فلا شك أن علوم الدين أفضل لما تحقق لصاحبها من السعادة الأبدية في الآخرة، قال الإمام ابن حزم “وعند التحقيق وصحة النظر فكل ما عُلم فهو علم، فيدخل في ذلك علم التجارة والخياطة والحياكة وتدبير السفن وفلاحة الأرض وتدبير الشجر ومعاناتها وغرسها والبناء، وغير ذلك إلا أن هذه إنما هي للدنيا خاصة فيما بالناس إليه الحاجة في معاشهم، والعلوم التي قدمنا “يقصد التي تساعده لفهم الدين وأحكامه” الغرض منها التوصل إلى الخلاص في المعاد فقط، فلذلك استحقت التقديم والتفضيل” رسائل ابن حزم 4/81.
وعليه، فالمهمة التي ينبغي أن يقوم بها علماءُ المسلمين على اختلاف تخصصاتهم هو علاج مناهج المعرفة عندهم من الانحراف الذي أصابها والتوصل إلى صيغة منهجية ملائمة يمكن بها الجمع بين ما يدخل من صميم الوحي من جهة، وما هو موكول للحواس والعقل القيام به من جهة أخرى في وحدةٍ وتكامل يتبوأ كل منهما مكانه الصحيح دون مغالاة أو تعسُّف.

ليس أكبر دليل لتأكيد خطأ هذا الاعتقاد هو ما نلاحظه عن المجتمعات الغربية فإنها لم تأخذ في مسيرة تقدمها الدنيوي من عقائد وأحكام أديان أو فلسفات سماوية أو بشرية ولا حتى عن الإسلام فضلا أن تدَّعي ذلك، بل سلكت طريق العلوم التجريبية التي تعتمد على الحواس والعقل.

مقالات ذات صلة