الرأي

ثقافة الدولة وثقافة “الدشرة”

التهامي مجوري
  • 1637
  • 4

لا نقصد بمصطلحي ثقافة الدولة وثقافة الدشرة المدح أو الذم، وإنما نقصد الإشارة إلى الفوارق الطبيعية التي لا يحسن إغفالها في تناول قضايانا بالتحليل والدراسة، فالدولة لها الطابع السياسي، فهي مؤسسات ومسؤوليات ومغانم ومغارم والتزامات محلية ودولية. أما الدشرة فطابعها اجتماعي أخلاقي عرفي، يتحسس حاجات أهلها والتزاماتهم، وبذلك يكون كل ما فيها من مؤسسات خادم لهذا التحسس، والدولة مؤسسات تربط بينها علاقات قانونية وإدارية معقدة تحمل في طياتها معاني السلطة بجميع أبعادها الخانقة الخارق، والخائفة المخيفة، بينما الدشرة بسيطة لا يوجد فيها إلا علاقات بين أسر وقبائل، بكل ما تحمل من متانة الروابط التي فيها من الألفة التلاحم أكثر من دواعبي الفرقة والتمزق، والدولة هي الإطار العام الذي تجتمع في إطارها المداشر المتعددة، بينما الدشرة لها من الخصوصيات ما يجعلها محلية غير قابلة للتعميم دائما، بسبب ما فيها من خصائص محلية غير قابلة للتعميم.

والمتعامل مع الجهتين مواطن واحد، فهو في إطار الدولة مواطن عليه واجبات وله حقوق، وفي إطار الدشرة مواطن عليه واجبات وله حقوق، ولكن هذه الحقوق والواجبات يصل إليها هذا المواطن ويمارسها في إطار الدولة والدشرة بثقافة الدولة عندما يكون مواطنا راقيا، اما عندما ينحدر إلى الأسفل فإنه لا يستحضر إلا ثقافة الدشرة، في كلتا الحالتين. والسبب في اعتقادي ليس وجود هاتين الثقافتين الكلية والجزئية –ثقافة الدولة وثقافة الدشرة-، وإنما هو في العقلية التي يحملها المثقف والمسؤول وهو يمارس مهامه في إطار مؤسسات الدولة والمجتمع، حيث يجر معه منطقه القروي ببساطته إلى رحاب الدولة العريض بجميع تعقيداته.  

وذلك في ذاته ليس عيبا ليس عيبا أيضا، على الأقل من الجانب الأخلاقي، وإنما العيب في تعميم الجزء على الكل، وعدم مراعاة الفروق الطبيعية بين منطق الدشرة ومنطق الدولة، لأن العلاقات في الدولة بين أبناء الدشرة وبين المداشر، تخضع للمنطق التعاقدي الذي يتضمن حزمة من القوانين والتشريعات، والذي فرضته القيم والتباينات بين فئات المجتمع التي هي في أصلها مجموع المداشر والمدن، بينما في الدشرة يحكمه المنطق التراحمي، المبني على العرف والدين والقرابة الأسرية، ومن ثم فإن العلاقات في الدشرة أقوى وامتن منها في الدولة، والنظم الاجتماعية في العالم رغم تطورها لم ترتق إلى هذا المستوى القيمي الذي تحققه الأسرة والدشرة والقرية في مجال التوازن بين الحقوق والواجبات، والانتصار للحق والعدل وضمان الحريات في الإطار العام، ذلك هو السر في الفرق بين بساطة الدشرة وتعقيدات الدولة.

هذه الفوارق الجوهرية بين منطق الدولة وطبيعة الدشرة، لا تستحضرها نخبنا وهي تناقش قضايا الأمة وبناء الدولة، على الأقل للإفادة من إيجابيات “قانون الدشرة”، وإنما يستحضرون الدشرة وثقافتها عندما يشرعون في توزيع الريوع، وهم يمارسون مهامهم في مؤسسات المجتمع والدولة، وتوزيع المناصب وتحضير “رؤوس” القوائم الانتخابية، والاستئثار بالامتيازات التي تدر بها مواقع المسؤولية، فعندما يصبح المرء وزيرا فإن أول ما يخطر بباله هو الاستعانة بمن يحمي ظهره من أهل العشيرة والقرابة والقرية والولاية والجهة، وهذا الكلام ينسحب على جميع من يشتغل بالشأن العام –بكل أسف-، سواء في السلطة أو في المعارضة، أو حتى في المجتمع المدني، وفي جميع  المجالات السياسية والثقافية والتربوية أو الاقتصادية.

لا شك أن “ثقافة الدشرة” لها دورها في تنشيط فاعلية المجتمع، وفي ضمان تماسكه، لما لهذه الثقافة من قوة وقدرة على الصمود أمام العواصف، بسبب ما فيها من قوة التراحم والتعاون والتوادّ والتحابّ…، كما أن للدولة منطقها في تسيير دواليب المجتمع ومؤسساته؛ بل لا معنى للدولة إن لم يكن لرجالها هذه الثقافة الأعم والأشمل والأقدر على تذويب ثقافات المداشر في بناء وطني فعال.

ولا شك أيضا، أننا لسنا أمام خيار يفرض عليها ثقافة الدشرة على حساب ثقافة الدولة، او تبنّي ثقافة الدولة على حساب ثقافة الدشرة، وإنما المطلوب إجتماعيا وسياسيا، أن تنصهر “الثقافتان” في بوتقة واحدة هي ثقافة المواطنة، أو ثقافة الحقوق السياسية والواجبات الاجتماعية أو ثقافة احترام الآخر، أو ثقافة التوازن…؛ لأن المجتمع –أي مجتمع-، يحتاج إلى القانون والمؤسسات القوية لتنظيمه وحفظ توازنه واستمراره ونمائه، الذي هو من مظاهر ثقافة الدولة، كما يحتاج إلى الدفء الأسري والقرابة وأهل الحي والدشرة والقرية والمدينة، بكل ما تحمل من أخلاقيات التراحم والودّ، وهي القوة السياسية التي سماها ابن خلدون “العصبية”.

وأغلب نخبنا الثقافية والسياسية –من غير التعميم بطبيعة الحال-، لم ترتق بعد إلى مستوى ثقافة الدولة في ممارساتها، ولا أدل على ذلك من تقديم القرابة والعشيرة والجهة على حساب الكفاءة والالتزامات القانونية، واستعمال بعض المصطلحات العرفية في النيل من الخصوم السياسيين، أشد وضوحا في استناد النخب على ثقافة الدشرة. فالوزير الذي يلعن من لا يحبه “إنعل بو اللي مايحبناش”، لا يمكن ان يكون متشربا لثقافة الدولة؛ لأن رجل الدولة لا يفترض أن كل الناس يحبونه، وإنما يعتبر نفسه “خداما” لجميع مواطنيه، الذين يحبونه والذين يكرهونه على حد سواء؛ لأنه يعمل في إطار دولة تجمعه بغيره وليس في إطار دشرة يبيح لنفسه ان يلعن من كان خارجها. 

مقالات ذات صلة