-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

جدلية تجديد الخطاب الديني

خير الدين هني
  • 1039
  • 3
جدلية تجديد الخطاب الديني

في النصف الثاني من القرن العشرين، احتدم الخلافُ بشكل كبير بين المدارس الفكرية والسياسية في العالم العربي والإسلامي، وأخذت هذه المدارس -على تنوع مشاربها- تدعو إلى ما أصطلح على تسميته بضرورة تجديد الخطاب الديني في الكتابة والتأليف والمحاضرة والتدريس وفي جميع منابر الدعوة والإرشاد والتوجيه، وحتى في الحياة العامة ضمن خطاب الأدب الشعبي، ولكن من وجهات نظر مختلفة باختلاف الاتجاهات الفكرية التي تشكل نُزوع كل مدرسة، وقد أثارت هذه المسألة جدلا كبيرا بين فئات مجتمع النخبة من المثقفين والإعلاميين والسياسيين ورجال الدعوة والإصلاح.

أصحاب المدرسة التراثية:

يرى أصحاب المدرسة التراثية أن الدين أمرٌ توقيفي، ولا يجوز –بأيّ حال- أن تخضع شرائعه إلى العقل، وإنما التجديد يكون في رد الأحكام إلى أصولها الصحيحة، والتجديد يكون في تنقية الخطاب من التشدد فيما لا تشدد في أصله لورود الأدلة في ذلك، أو بما علق به من شوائب العادات الاجتماعية التي ألصِقت به عبر العصور، أو بإدخال عناصر جديدة في مناهج البحث والتحقيق والدراسة والمقارنة بين النصوص والأحكام وأقوال العلماء الصادقين، أو بإعادة ترتيب الأولويات بقراءات تأويلية جديدة تتوافق مع روح النصوص خدمة لمصالح المسلمين، وهم يجمعون على أن الإسلام ليس دين عنف يبيح الاقتتال بين المسلمين بسبب المنافع السياسية أو المالية، أو دينا كهنوتيا يدعو إلى الوساطة البابوية وبيع صكوك الغفران، أو دينا قمعيا يحجر على الإنسان إرادته وحريته وحركته، أو يريده  درويشا متبتِّلا منقطعا عن الحياة في أقبية العبادة.

أصحاب المدارس اللبرالية والمادية:   

أما أصحاب المدارس اللبرالية والمادية، فقد التمسوا مناهج جديدة في التجديد، خالفوا فيها أصحاب المدرسة التراثية؛ إذ اعتبروا العقل هو المصدر الأول في تأويل النصوص وتكييفها بحسب الحاجة والمنفعة، وما لم يقبله العقل والضمير فهو ردٌّ، لأنه يتعارض مع مصالح الإنسان المادية والجسدية والغريزية، ولكي يحققوا مرادهم استخدموا وسائلهم الدعائية في كل الوسائط للضغط على الهيئات السياسية والدينية، لإصدار قرارات وفتاوى رسمية يدعون فيها إلى ضرورة تنقيح الإسلام من الفهوم التي بدت لهم أنها لا تتساوق مع المقاصد الكبرى للإسلام، وهي المقاصد التي دلّت عليها النصوص الصريحة والواضحة من القرآن الكريم، حسبما زعموه.

وهذا الفريق من أصحاب المدارس الليبرالية والمادية، تشرّبوا أفكارهم المادية والنفعية مما تلقوه في تعليمهم، إما من اللغات الأجنبية التي شكلت لهم مصدرا من مصادر تثقيفهم، بالاطّلاع على التاريخ الديني والثقافي والأدبي والفكري والسياسي للغرب، وإما لكونهم انتسبوا إلى الجامعات والمعاهد العليا في الغرب في مراحل التعليم الجامعي والدراسات المعمقة، وتلقوا علومهم ومعارفهم من كبار المستشرقين الذين كانوا يدرّسون الآداب الشرقية في الأقسام الجامعية الخصيصة لذلك، أو لأنهم تثقفوا ذاتيا من الفضائيات التنصيرية المعادية لمشاريع الأمة، أو من قنوات الإعلام الخاص التي أصبحت تعقد جلسات مناقشة مع علمانيين أو مع مرتّدين متلاعبين، يتظاهرون بالإيمان لإخفاء ما يكيدونه، ولكنهم يجاهرون بالطعن في سِيَر الصحابة والفاتحين وأمّهات المؤمنين، ويتحاملون على التاريخ والحضارة الإسلاميين، ويؤوِّلون آيات الأحكام تأويلا فاسدا لإشباع نزواتهم، أو من المحاضرات والندوات والتسجيلات والكتب والمجلات.

وكانت الثورات الدينية كثورة مارتن لوثر، والثورات السياسية التي أشعل فتيلَها  الفلاحون والثوريون على السلطة الكنسية، مثل الثورة الفرنسية وما تلاها من ثورات في أوروبا كلها، كانت هي المصدر الذي استوحوا منه أفكارهم وعقائدهم، وحرّك نوازعهم وشحن عواطفهم، وجعلهم يدعون إلى تحرير الأخلاق السياسية والأدبية والحياة العامّة من السلطة الدينية وضوابطها التوقيفية، واعتبروا كل قيمة فكرية أو أخلاقية مستوحاة من الميتافيزيقا، ليست إلا أفكارا ميتة لا تستجيب لمعايير الحياة المعاصرة، التي ترتكز على الجدلية المادية في تفسير تطور نظم الحياة والطبيعة، وأن المنفعة العليا لحرية الفرد واستقلاله في الرأي، هي معيار القبول لأيِّ فلسفة إيديولوجية أو اجتماعية أو سياسية.

وأنه يجب التحرُّر من قيود سلطة الدولة، والتقاليد الدينية والأخلاق التقليدية وسطوة المجتمع المحافظة، وأن المجتمعات العربية والإسلامية، هي المجتمعات الوحيدة التي مازالت تعبّ من معين الفكر الديني الذي جمَّد عقول المسلمين، وتركهم أجساما ميتة بلا روح عصرية، وبعقول خامدة جامدة راكدة، لا تقدر على تحريك أي نشاط مُبدع، يضفي على الحياة روحها العصرية، لأن الدعاة من رجال الدين -في زعمهم- ما زالوا متقيدين بتفاسير الفقهاء والمحدّثين القدماء، الذين كانوا متأثرين بسياسة الخلفاء الأمويين والعباسيين.

ظهر هذا التيار مع ظهور الحركات الإصلاحية:

بدأ هذا التيار ينطّ برأسه منذ ظهور الحركات الإصلاحية، على يد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومن تبعهم من أنصار التجديد، من أمثال طه حسين وقاسم أمين ولطفي السيد وسلامة موسى، وغيرهم ممن درسوا في الغرب وتأثروا بنهضته وحضارته واتجاهاته الفكرية، ثم أخذ في التوسُّع والانتشار بين شباب النخبة المثقفة في الجامعات والمعاهد العليا، وقد ازدادت حدَّتُه وخطورته مع ظهور الوسائط التكنولوجية الذكية، ولاسيما العدد الهائل من التسجيلات في اليوتيوب وأصبحت رؤيتها متاحة للجميع من غير استثناء.

وزاد من انتشار فكرة الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني بالعقل، أن بعض نخبة المدارس الليبرالية والعلمانية، انتهجوا إستراتيجية جديدة في سياسة تهديم القيم الدينية، باستخدام التقية لإخفاء ما بنفوسهم من كيدٍ ومكر، فاعتبروا أنفسهم مجدِّدين يعتمدون طرقا جديدة في تأويل النصوص، بمخرجات توفيقية بين الدين وظروف العصر، وهو التأويل الذي لم تدركه الأجيالُ الأولى من الفقهاء والمفسِّرين -حسب زعمهم- لتحجُّر عقولهم وضعف مناهجهم، وسيطرة مدارس الفقه والحديث القديمة على أفكارهم وعقائدهم، وهي المدارس التي كانت تحرِّكها رغباتُ السلطة السياسية في العهدين الأموي والعباسي.

وقد اشتطُّوا كثيرا، حينما أباحوا لأنفسهم تكذيب صحابة كبار كأبي هريرة، وأئمّة عظام كالبخاري وغيره من كبار أعلام المحدثين والحُفَّاظ والفقهاء، فرموهم بالكذب على الله ورسوله، وبالغفلة والقصور في فهم نصوص الحديث، والتاريخ يشهد على نصاعة سيرهم، وأنهم كانوا أساطين علم وفكر وأصحاب منهج قويم في تنقية الحديث وتقسيمه إلى درجات، وكانوا زاهدين ورعين وأكثر ما يرعبهم خشية الله ورقابته وعقابه.

والغريب في دعوة هؤلاء إلى ما يسمونه التجديد بالعقل، هو نفيهم للسنة الصحيحة، وهي المصدر الثاني للتشريع، واقتصارهم على القرآن الكريم، ثم عمدوا إلى نصوص الأحكام فحرَّفوها عن معانيها الأصلية التي تضبط صحيحا من سقيمها، بضوابط اللغة والبلاغة وكلام العرب الذي نزل به القرآن الكريم، وكل نصوص الشعر والنثر في أي لغة من لغات العالم، إنما يُفهم المراد من دلالاتها بفهم واحد بضوابط تلك اللغة، لأن اللغة كائنٌ اجتماعي اصطلح على وضعها البشرُ بمعان ثابتة ودقيقة، وليس بمفاهيم متعددة، لأن اللغة لو لم تكن كائنا اصطلاحيا تواضع عليه أهلُ تلك اللغة، لوقع الخلاف بين أهلها في فهم معانيها ودلالاتها، ولما تم بينهم التواصل في جميع المعاملات، ولعمَّت الفوضى بين الناس وضاعت مصالحُهم حينما يختلفون في فهم الكلمات والجمل والنصوص.

وبعض هؤلاء المجدِّدين المخالفين لقواعد الضبط اللغوي، يحلو لهم تسمية أنفسهم بـ”القرآنيون” (برفع كلمة القرآنيون دوما لأنها أخذت خاصية الجمود)، لأنهم عطلوا العمل بالسنة وكذبوا المحدثين وطعنوا في علمهم وعدالتهم ومناهجهم وفهومهم، وجعلوا من أنفسهم جهابذة في علوم القرآن والحديث، وبعضهم لا يستطيع إعراب جملة بسيطة فيها تقديمٌ وتأخير، لأن مجال اختصاصهم كان في غير علوم اللغة والشريعة، وإنما أقحموا أنفسهم فيما ليس لهم به علمٌ إلا بالثرثرة والجدل العقيم، لغاية التهديم والتشكيك.

ويرى الكثير من هؤلاء الذين يسمون أنفسهم “مجددين”، بأن عملية تنقيح الخطاب الديني في الدول الإسلامية لتجديده، ضرورة ملحة لاسيما بعدما تسببت بعض الفهوم الخاطئة في حوادث خطيرة -حسب زعمهم- كالتكفير والجهاد والإرهاب والاعتداء على حقوق المرأة والأقليات، واستخدام العنف داخل المجتمع لفرض أفكار معيَّنة عليه، وغير ذلك من المشكلات التي تولدت من رحم المفاهيم الدينية التقليدية -حسب أقوالهم- والتي يتم تدريسُها على أنها هي الدين.

وقد غالوا كثيرا في  تخريجات فاسدة، حينما أباحوا لأنفسهم -باسم تجديد الخطاب الديني- تغليط أحكام معلومة من الدين، وأوَّلوا نصوصا أخرى تأويلا فاسدا بإخراجها عن سياقها المعنوي، وأنزلوا أحكامها الشرعية قاطعة الدلالة والثبوت -بغير قياس صحيح- على أحكام أخرى متصلة بنصوص لا ترتبطان بصلةٍ معنوية أو غائية، من ذلك ما ذكروه في حكم قتال غير المسلمين لنشر الإسلام، ووضع حدود لزجر تاركي الصلاة،  والمجاهرين بالإفطار في رمضان، وتجويز العنف مع النساء، وفرض الحجاب عليهن بالقوة، وغير ذلك مما يسمونه “بشاعات تتعارض مع كل مفاهيم الرحمة والإنسانية والضمير”. وهذا هو المروق عن الدين ولكنهم لا يعلمون!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • خليفة

    دعاة العلمانية و الملاحدة و دعاة التجديد المزعوم ،يعملون على تشويه الدين و المس برموزه من خلال شبهات باطلة تلقفوها دون وعي من مستشرقين حاقدين على الإسلام ،بسبب نزعة لا دينية او عنصرية او صليبية ،او بسبب دراسة سطحية للاسلام...الخ ،و مع كل ذلك يبقى الإسلام عظيما لانه يجمع بين العلم و الايمان ،يعترف به و يتبعه العظماء و العلماء و المتنورين ،و يتنكر له و ينسلخ منه اراذل الناس و الجهلة ،و شواذ الفكر ،و المتحررون من كل الضوابط ،و لكن الله متم نوره و لو كثر المهرجون.

  • 1. الجزء الأول من التعليق

    1. شكرا لتطرقك لهذا الموضوع المهم، في هذا الوقت بالذات، وسط سياسات تخذير الفكر المسلم وقيادته كالقطيع دون فهم أو تدبر، لكن عندي ملاحظة قد أكون مخطئا فيها: هل الأسماء التي ذكرتها زاغت عن السراط؟ جمال الدين وطه حسين ومحمد عبده...! لا أراها إلا أنها قدمت الدين (حسب علمي السطحي) في قالب جديد، وديننا لا يعارض التجديد في العادات والسلوكات، بخلاف الاحكام التي لم يتعرضوا لها. من جملة من أراهم فتنوا الناس والله أعلم، هم أمثال عدنان ابراهيم والشحرور الذين ينكرون أحاديث صريحة اتفق عليها ملايين العلماء (عبر العصور) ليقوم أمثال هؤلاء بنكرانها لعواطف أو لغرائب تسود طياتها حسبهم...

  • 2. الجزء الثاني من التعليق

    2. لغرائب تسود طياتها حسبهم كزواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة لأن هذا لا يعجب الغرب، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم من آلاف آلاف الأعمال لم يجدوا إلا زواجه ليطعنوا فيه، ويأتي أمثال عدنان لينكر صحيح البخاري! وقد أفحمه أبو عمر الباحث بالحجج النقلية والعقلية التي تجعلنا نتأكد أن عدنان بوق ذكي من أبواق الغرب. وهناك صراحة من يحارب الدين ويظهر الايمان من أمثال أحمد البحيري الذي يسب العلماء وينكر الصحيح ويدعي اعترافه بالقرآن والقرآن يلعن أمثاله. لهذا ننصح شباب المسلمين إذا أشكل عليهم أن يردوا ذلك لله والرسول.