الرأي

جيل الـ 4G

عمار يزلي
  • 4843
  • 10

التحولات القيمية التي تتزامن مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، والتوجه من الأحادية الموحدة إلى “الأحاديات المتعددة”، خلقت إرباكا على مستوى التمثلات الثقافية والممارسات الاجتماعية، إرباكا غير مسبوق، بفعل سرعة التغيُّر وهشاشة التثبيت، تحولات مريعة وسريعة وتقلب في الأوضاع رأسا على عقب، أنتج ما أسميه هنا بجيل جديد هو “جيل 4G”: سرعة في التدفق والسيولة في العروض وانفتاح على المفتوح بعد أن كنا قبل جيلين نعيش مغلقين على المُغلق، لكن، مع ذلك، كان “الهناء في الرأس”، واليوم كل شيء متوفر إلا “الهناء”، الجيل المولود قبل 20 سنة، لم يعرف معنى الندرة، ولم يعرف معنى التلفزيون الأبيض والأسود ولا القناة اليتيمة التي يتفرج على برامجها الكل.. بالسيف أو بالخاطر! الجيل 4G، لما وُلد وجد التعددية وهامش الحريات أكبر، حريات من نوع “افعل ما تشاء” إلا أن “تهدد المصالح العليا للبلاد” (أن تعارض يعني!) في السابق كانت المعادلة شيئا آخر: قل ما تريد، لكن لا تقُل ولا تفعل إلا ما نريد!

هكذا، وُلد هذا الجيل، بدون معايير رقابة وخوف من الأمن والبوليس السري والاعتقال و”الشكارة”، هذا الجيل لا يعرف كيف انتقلنا من عهد بوشكارة إلى عهد الشكارة، لهذا وجد نفسه عندما ولد في تعددية فوضوية، لهذا يعتقد أن العالم يمشي هكذا: أفعل ما أشاء، أطالب بما أريد، لي الحق في الحصول على ما أرغب، لي الحق في كل الأشياء والواجب في لا شيء، لا شيء واجب عليه، بل كل شيء واجب على الدولة والحكومة وإلا فإنه يحرق البنوّات إن لم يتمكن من حرق المحلات وتخريبها.. جيل تقلاش.. بعقلية أنانيش! يتقلَّش على الأستاذ وعلى الشرطي وعلى الحكومة بأسرها بعدما تقلش طويلا على يد أبويه الكريمين، لهذا فهو يطالب بالباك بدون عمل ولا اجتهاد! وبحق الغش وبحق الوصول متأخرا إلى امتحان مصيري، كنا لا نبيت الليل لكي نصل ساعتين قبل موعد الامتحان حتى لا نتأخر، التأخر الآن صار كالخبز، نووورمال! لكن هل يتأخَّر عن موعد إقلاع الطائرة؟ مستحيل لأنه يعرف أنها لا تنتظره! (طبعا إذا كانت مواعيد خطوطنا الوطنية مواعيد عربية، فالأحرى به أن يأتي متأخرا ليضمن الخروج متقدما!) حتى العائلات، تربت على هذا التقلاش والفشوش، أولياء التلاميذ يطالبون بدورة استدراكية للمقصين من الباك بسبب التغيّب أو التأخر، هذا “تأخير زمان”! فغدا قد نسمع عن مطالب جماعية أو نقابية، بمنح الباك للجميع والليسانس للكل والماستر للبقية والدكتوراه لكل من طلبها، ثم نأتي ونهدد الأساتذة ونشتمهم.. بل.. ونقتلهم أيضا! أليس هذا وضعا مريبا؟ هل دور الدولة هو ترشيد التحول الثقافي أم عليها فقط الهروب إلى الأمام لتحقيق تطور اقتصادي بعيدا عن مواكبة هذا التحول لأخطر تحول يجري وهو ترهُّل التقاليد وتفكك القيم والانتقال إلى حالة “التسيُّب” التي سماها دوركهايم بالأنوميا.

الجرائم التي نشهدها لم نعرفها من قبل: الانتحار، النهب، القذف، التحايل، الدس والتزوير، الخطف.. كلها تنذر بعواقب مُرَّة على مسيرة التنمية، فالتمنية بشرية قبل أن تكون مادية، إلا أنه يبدو أننا لم نحقق من كل هذا واحدا من الاثنين، والسبب أن الاثنين يمشيان مع بعض ويكمل أحدها الآخر، وإذا لم نطهر البيت، فلن نتمكن من القضاء على المرض، والبيت يبدأ بالتربية؛ التربية.. وليس التعليم، والتربية وليس “التغبية”!

تصبحون على خير، اليوم لم أنم! 

مقالات ذات صلة