الرأي

حتى لا تعود حليمة إلى عادتها القديمة

حبيب راشدين
  • 1384
  • 2
ح.م

 الآن وقد صدر الحكم في حق من وُصفوا بـ”العصابة” في محاكمة سريعة مرت مرور الكرام في الصحافة الوطنية، وكأنها “لا حدث”، كما تعاملت معها الصحافة الدولية كحدث عابر وشأن داخلي صرف، يفترض أن نتوقع تحريكا سريعا لمسار محاكمة أدوات العصابة في الجهاز التنفيذي، وشركائهم من مجتمع الأوليغارك المستفيد، في ملفات فساد ثقيلة، لها حتما بُعدٌ قضائي استثنائي، وبعدٌ سياسي غير مسبوق في بلد نام، كانت السلطة فيه منذ الاستقلال محمية من الرقابة التقليدية ناهيك عن الملاحقة القضائية.

وبقدر ما كان الحكم على الفريق مدين والجنرال خالد نزار وزعيمة حزب العمال يُضمر إرادة التصدي بقوة لأي طرف عسكري أو مدني من خارج السلطة قد تورَّط أو سيتورَّط في مسارات تستهدف إضعاف مؤسسة الجيش، وضرب استقرار البلد، فإن الحكم على شقيق الرئيس، المختطِف لسلطات وصلاحيات الرئيس، يؤسس لمحاكمات قادمة للمتهمين من الجهاز التنفيذي، يحرمهم من عذر الامتثال لقرارات فوقية من الرئيس الفعلي للجهاز التنفيذي، ويحمِّلهم، إضافة إلى تهم الفساد، تهمة الانصياع دون مقاومة لأوامر تصدر عن جهة متهمة باختطاف سلطات الرئيس، لم يكن ليتمادى في إدارة البلد خارج الشرعية لو لم يجد قدرا من الاستجابة والتواطؤ، وفي الحد الأدنى قدرا من الانبطاح الجبان دون مقاومة.

الحكم على أسماء كبيرة كانت إلى عهد قريب تكابر بصفات الربوبية، وتجاهر بسلوك الطواغيت، سوف يترتب عنه حالة من الردع المستدام لفئة من المسؤولين الكبار في الدولة من المدنيين والعسكريين، قد حوّلوا مواقع في السلطة إلى إقطاعيات يأمرون وينهون فيها بلا حدود أو ضوابط، وكأن البلد قد صار لهم ضيعة خاصة، وسكانه محض رعايا، تماما كما كان يتصرف أرباب الحقبة الكولونيالية مع شعب الآنديجيان.

وإذ لم تكن المحاكمة العسكرية تسمح ـ بطبيعتها ـ بالإشهار، فإنَّ المحاكمات المدنية القادمة سوف توفر فرصة لنشر غسيل السلطة الساقطة، في جلسات عمومية يحسن بالقضاء أن يرخِّص بنقل تفاصيلها للرأي العام، سوف نكتشف فيها كيف أن أغلب ملفات الفساد كان مصدرها الصفقات العمومية، في بلد ما زال المال العام يشكل محركه الرئيس، ومصدر التمويل الأول للاقتصاد، وكيف أن أغلب الثروات القارونية التي تشكلت في العقود الثلاثة الماضية تدين لسلطةٍ مستبدة ليس عليها رقيب، ولإدارة قاصرة تابعة مسيَّرة لا مخيَّرة، لا تردُّ طلبا لمن تعتقد أنه وليُّ نعمتها، المانح والقاطع لأرزاقها، وأنه ما لم نغتنم هذه الفرصة لتبني إصلاحات تحرر الإدارة من جور السلطان، وتوفير استقلالية واسعة، وحماية قانونية للمنظومة الإدارية البيروقراطية في الدولة، فلا سبيل لمنع “عودة حليمة إلى عادتها القديمة”.

بعضهم قد يستأنس بالقاعدة التي تقول: “الاستبداد المطلق مفسدة مطلقة”، مع أن النُّظم الديمقراطية لم تنجح في ثلاثة قرون في استئصال شأفة الفساد، إن لم تكن قد وفرت له صيغا أكثر دهاءً ومكرا وخبثا، حتى مع وجود سلطة قضائية مستقلة، ورقابة تمثيلية فعلية على السلطة التنفيذية، ومجتمع مدني يقظ ومتمرّس، لأن الهدف الأول من التهارش على السلطة، كان وسيظل التربُّح والانتفاع السريع من موقع السلطة، وأن الذي لم يفسد بعد هو من لم تتوفر له فرصة الفساد والانتفاع من المنصب.

المعركة مع الفساد معركة مستدامة، تحتاج إلى موازنة دائمة، بين مسار يضيِّق من فرص الانتفاع من المنصب، ويوسِّع من إجراءات التحفيز المشروع للأكفاء والشرفاء والنزهاء، وقبل ذلك حماية المفسدين من شرور أنفسهم، بفرض حراسة لصيقة للمال العام، وباخضاع الجهاز التنفيذي للرقابة البرلمانية، ووضع أدواته البيروقراطية التقنوقراطية تحت سلطة القانون والقانون وحده، والوصول أخيرا إلى تحقيق فصل فعلي بين الدولة والسلطة، تكون السلطة المنتخَبة فيه مجرد “ضيف مؤقت” وعابر سبيل على مؤسسات الدولة، يسخِّرها بالقانون والقانون وحده.

مقالات ذات صلة