-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
انزياح مع الدكتور إسماعيل مهنانة ومقاله في "انزياحات" وزارة الثقافة

“حين تقدس البَهيمِية.. وتفكر تحت وطأة الخوف من الموت”

محمد بوخطة
  • 1644
  • 10
“حين تقدس البَهيمِية.. وتفكر تحت وطأة الخوف من الموت”
ح.م

لست ضد حرية التعبير بَلْهَ حرية التفكير، غير أن التعبير عندما يكون منطلقاً من منبر رسمي (الدولة ومؤسساتها) فإنه يصبح مقيداً بالقيم ـ ذات الطابع القانوني ـ التي تقيد بها مؤسسة الدولة نفسها حتى ولو لم يكن المُمَارِس مقتنعاً بها، في هذه الحالة عليه أن يتخلى عن موقعه منها ويعبر كما يشاء، أما أن يستغل وسائل الدولة ومنابرها التي هي في الأخير ملكية عموم الشعب كي ينفس عن عُقده وشذوذه، هنا أصبح من الواجب التصدي لتفاهته ووضعه في حجمه.

استفزني ما كتب المسمى / الدكتور إسماعيل مهنانة في مجلة وزارة الثقافة “إنزياحات ” المنزاحة عن عمق العقل ورقيِّ الذوق في مقاله الموسوم “سوريالية أم موت للواقع” في العدد الأول/أبريل 2020، صفحة 12، لا سيما الفقرة تحت عنوان:

كيف ينعكس كل هذا على رؤيتنا للحياة والموت؟

حيث عبر: “إن هذه الرؤية تتشكل داخل الثقافة، هذه الثقافة ليست ســوى تأويــل وتفســير لوضع الجسد الإنساني داخل محيطه فالجسد الإنساني هو مركز الحياة كله”

فضيلة الدكتور المحترم حين نتحدث عن رؤيتنا للحياة والموت فنحن لا نتحدث عن الثقافة بمفهومها الشائع ولكننا نتحدث عن العقيدة الإنسانية التي يتبلور من خلالها مفهوم الحياة والموت والذي يرتبط أساساً بالخلفية الميتافيزيقية كما تسميها والخلفية الاعتقادية (الدينية) كما أسميها ـ وكما يفهمها المنصفون ـ فما الذي جعلك تنزل عن المصطلح الشائع لتستعمل مصطلح “ثقافة” بدلاً عنه … أُخبرك:

إنني أدرك أنك تدرك أن المراد هو العقيدة الدينية ولكن لعلمك مسبقاً أنه مصطلح حساس يحمل شُحنة مرتبطة بعواطف الناس وانتماءاتهم، وأن إفصاحك عنه سيشوش عليك بلوغ مرادك في إثارة الشبهة حول عقائدهم استعرت مصطلح “ثقافة” لتهون الأمر وتدس السم في لبنك لا في عَسَلنا.

ثم قلت: “فالجسد الإنساني هو مركز الحياة كلها … ومنبع كل القيم الأخلاقية والجمالية” حاولتُ أن أستوعب هذه العبارة المادية حتى أتحسس الفرق بيني وبين الكائنات الحية غير العاقلة …

فضيلة الدكتور المحترم إذا كان الجسد الإنساني هو مركز الحياة ـ وأنت هنا قطعاً لا تقصد الحياة المادية فقط لأنك قرنتها بالقيم الأخلاقية فينصرف معناها إلى ما يتجاوز المادية ـ ومنبع القيم الأخلاقية … لا يخفاك أيها العارف أن الجسد موجود مشترك بين كل الكائنات الحية فإذا كان هو مركز الحياة ومنبع الأخلاق فكيف يقنعنا الدكتور المحترم بالفرق بين مثل جسده البديع وهو أرقى خلق الله وبين مثل جسد الخنزير الذي هو خلق من خلق الله … بمثل رؤية الدكتور يستوي الجسدان في الجسدية قطعاً.

ثم عندما تطلق يا دكتور مصطلح “أخلاق” فهو ينصرف أصالة إلى معان قبل التي ذكرت وهي معاني: الصدق والوفاء والمروءة والالتزام والإخلاص والإحسان وحب الأوطان وبذل الخير للناس والاستقامة ونكران الذات … فأين موقع هذه الأخلاق من الجسد يا فضيلة الدكتور وهل يشترك فيها البشر مع القردة والخنازير… بل أين موقع الحب والعشق والكره والبغض في جسدك يا دكتور..

محور الكون هو الإنسان وليس الجسد، وسر الإنسان وعلة تميُّزه هو العقل وليس الجسد، لذلك لم يستو وجوده بوجود الأحياء دونه وكان مسيطراً عليها بميزة العقل وثمرته التي هي التفكير… فلماذا تريد أن تسوِّينا بالقردة والخنازير أكرمنا وأكرمك الله.

غير أني أتوهم أنك تلمز إلى شيء خفي لم تجرؤ على التصريح به وهو أن تقطع الصلة بين الأرض والسماء وتتنكر للوحي والأديان لأنها تخاطب العقول لا تخاطب الأجساد فالذي عليه العقلاء أن الخطاب إنما يُناط بالإنسان من حيث كونه عاقلا فإذا أخرت عنه صفة العقل لتقدم صفة الجسد (المادة) قطعت الصلة بين الأرض والسماء، ولكم ولأمثالكم في ذلك سر سيأتي بيانه.

حين تقول: “ولم تعد قيم العفة أكثــر أهمية من مســألة النظافــة التــي قــد تتحــول إلــى قيمــة عليا” فلقد أجهدت عقلي لأفهم مرادك ولم أصل إلى ربط العفة بالنظافة … أما النظافة فهي عند العقلاء الراقين بذوقهم قيمة عليا أبداً قبل أن تعلو عندكم الآن فقط لتلتحقوا بهم ـ في النظرة أقصد لا في النظافة ـ

حين تقول: “وكمــا شــاهدنا تم إلغــاء طقــوس الدفــن الدينية لصالح الدفــن التقنــي دون أن يثيــر ذلــك أي ضجة”

إنك تنطلق هاهنا من نظرتك النمطية للدين التي لا تعبر عن الدين وإنما عن تصورك له ففي الحال يصبح الدفن التقني هو عينه الدفن الديني لأن أولوية الدين حفظ الحياة وفق حقيقة الدين نفسه، لن أخوض معك هاهنا في نصوص دينية وما تفرزه من مقاصد وقواعد فقهية وأصولية تقرر هذه الحقيقة فأمرك أهون من ذلك، لتعلم فقط يا دكتور أنه أينما كانت المصلحة فثمة الدين الحق غير أن مفهوم المصلحة له أصوله الفكرية والفلسفية كما الدينية لا يقرره قُصَّر الفكر وحُمَّال العُقَد، ليصبح ما تتحدث عنه من تخل عن الميتافيزيقية ـ كما تريدها ـ مجرد هراء لا يستحق التعليق، فالدين سلة واحدة لا تتجزأ من حيث الغايات والمقاصد وكل تفاصيلها مرتبطة بتلك الغايات والمقاصد.

الذي التبس عليَّ أنك تتحدث عن الجسد على أنه مركز الحياة لتصفه في الأخير بأنه مدنس أمام المقدس وأنت تقدسه دون المدنس حين تقول: “إن الحــدود بـيـن المقــدس والمدنس تزحزحت لصالــح هــذا الأخيــر” لو كنت مثلك في نظرتي للجسد على أنه مركز الحياة لانسجمت مع نفسي واعتبرت الجسد هو المقدس وكل ما دونه هو المدنس … كيف لا وأنت تقدسه،لن تخونني الشجاعة مثل ما خانتك.

مخ الكلام

الحقيقة التي تترسخ في ذهنك عندما تقرأ لفضيلة الدكتور هو أنه وأمثاله يعانون من: “فوبيا الالتزام” فهم ينطلقون من معاداتهم لكل ما يحمل معنى الالتزام ليس لجرعة الحرية الزائدة في نفوسهم، ولكن لآفة عجزهم عن التحكم في أنفسهم وقيادتها وفق قيم غير الفوضى والبوهيمية التي تفرضها سيطرة أجسادهم كما هي الحياة الحيوانية، ولذلك تجدهم يعادون الأديان ليس من منطلق عقلي، ولكن من حيث كونها تحمل معنى الالتزام، ويدلسون على ضعفهم وعجزهم بما يسمونه قيم الحداثة والحرية.

لقد خاصم اللهَ فلاسفةٌ كبارٌ عبر التاريخ غير أن عقولهم ردتهم إليه ردا جميلاً، أما هؤلاء الجدد فهم أقل من أن تكون لهم خصومة مع الله ولكن خصومتهم في الحقيقة مع ضعف أنفسهم وهوانهم دونها والذي يتجلى في مظاهر ما يسمونه حداثة وتحرر…

لو قالت الأديان قدسوا شهواتكم، حكِّموا أجسادكم، اجعلوا ذواتكم محور وجودكم، لا يهمكم إن تفسدوا أو تصلحوا، اسرقوا ما تشتهون، مارسوا الجنس كما تريدون، اعبثوا العبوا… لكان الأستاذ وأمثاله أكثر المدافعين عن الأديان المنافحين عن لا حدودها.

وقل في السياسة مثلما تقول في الدين عن أولئك الذين يستحبون الحركة خارج إطار القوانين…

حين تضعف هِمّة الإنسان ويتضخم أناه الحيواني لن تجد منه أفضل مما تجد من هؤلاء… انزاحوا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
10
  • RG

    معنى الثقافة
    ثَقافة
    1.
    تمكُّن من العلوم والفنون والآداب، غنى فِكريّ ومَعرِفة واسعة.
    "ثقافة عامّة"
    2.
    مجموع نِتاج جَماعَة في مجالات الأدب والفَنّ والفِكر.
    يعني انت تنتقد شخص يتكلم بشكل سليم و تناقض نفسك
    و الجسد الانساني هو تعبير مجازي يصب في الانسانية
    والانسانية السليمة هي الجسد الذي يحافظ لى سلامة الكون
    ولهذا هو مركز الكون هل فهمت
    هل نسيت
    العقل السليم ي الجسم السليم
    في العجلة ندامة و في التاني سلامة
    انت خطا و هو صح

  • قل الحق

    الى المعلق رقم 4 قليلا من الفلسفة، قولك فالأنسان على فطرته ميال إلى فعل الخير وتقوده قيم نابعة من ذاته نفسه، اسمح لي بسؤال من فضلك، من فطر الانسان و من خلق الذات و النفس، سيجيب المؤمن الله و سيجيب الملحد الطبيعة و هذا موضوع نوقش كثيرا و قاد كبار المفكرين للايمان، مهما حاولتم التهرب ستجدون انفسكم امام الدين.هذا التفكير الفلسفي ما هو الا اتباع للهوى لضعف صاحبه امام شهواته فاذا ناقشت مثلا ملحدا مثليا و قلت له وفقا لما تؤمن به بان الطبيعة اوجدت كل شيء فان نفس هذه الطبيعة اوجدت الذكر و الانثى و انت شخص شاذ سيحيبك بفكرة فلسفية يختلقها خصيصا لاخفاء شذوذه و ضعفه انه علم الكلام السلبي لا الايجابي.

  • بولذياب عبد الغاني

    شكرا على الرد .... اوفقك الراى ...فان الجسد لن يكون مركز الحياة ابد ...الانسان هو مركز الحياة قال سبحانه ""لقد خلقنا الانسان في احسن توقيم "" نعم لم يقل الجسد

  • جزائري

    أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا .
    (الفرقان - 44)

  • قل الحق

    في الحديث القدسي قال الله تعالى " من عادى لي ولياً فقد آذنته بحرب مني، وما تقرب لي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ومازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي بها وإذا سألني لأعطينه وإذا استغفرني لأغفرن له وإذا استعاذني أعذته.
    الثواب و العقاب ما هي الا نوع من الترغيب و الترهيب لا غير، فقد كان رسول الله يقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حتَّى تتَفطَرَ قَدمَاهُ و هو من هو و كان عمر في احتضاره يقول ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي حتى فاضت روحه و هو من المبشرين بالحنة.
    الاحاسيس الروحية ليست فلسفة انما حقيقة علمية.

  • جلال

    قد أناقش من لا يؤمن بالأديان أصلا (وجادلهم بالتي هى أحسن) وقد أتسبب في كفر البعض بدل هدايتهم نظرا لتفسيرات بشرية وأقاويل مغلوطة أقدمها لهم على أساس أنها من الدين لذلك يجب أولا إصلاح الفكر المتعلق بالدين لا الدين وعدم التشبت بكل ما يقال فإذا كانت مثلا عند السلف الأرض فوق قرن ثور فهى كذلك عندهم ذلك مبلغهم من العلم ثم ازدواجية النفس والروح مخالفة للقرآن (يتوفي الأنفس) ثم التركيز على أحاديث ظنية وغير معقولةمكذوبة على الرسول لأسباب مذهبية وغيرها وهجر القرآن وعدم التفكر والتدبر في آياته كما أمر الله أما اطلاق كلمة هرطقة فلن يفيد إن المهاجمة والانتقاد هما أسهل الأشياء وابغضهما إلي النفس

  • قليلا من الفلسفة

    لا أظن أن الصواب جانبك أنت أيضا في مسألة ارتباط الأخلاق بالدين، فالأنسان على فطرته ميال إلى فعل الخير وتقوده قيم نابعة من ذاته نفسه وهي تتمحور بالاساس حول الحرية الذاتية ولا علاقة لها بمسألة الثواب والعقاب التي ترتكز عليها فكرة الأديان جميعا.

  • محمد قذيفه

    جزاك الله خيرا فقد وضحيت وكفيت وشقيت ان كان المعني يستعمل عقله لا عاطفته

  • جزايري حر

    لافض فوك أستاذ محمد بوخطة ، فقد أجدت وأفدت ، وأبنت شيئا مما يبثه هؤلاء الحداثيون زعموا ،وما تخفي صدورهم أكبر ، فهم ابعد الناس عن المعقول والمنقول و "البهيمية" كما فصلت هي سمتهم البارزة...
    بارك الله في أستاذنا الفاضل .

  • قل الحق

    يا اخي اين كان امثالك، يا سيدي رغم ان ادق العلوم اصبحت تتكلم عن المادة المظلمة التي لم تفك شفرتها بعد و تكون 96% من الكون و ان المادة التي نعرفها و التي اساسها الذرة لا تمثل سوى 4% ، رغم ان ميكانيكا الكم افصحت عن ما لا يمكن لعقل تقبله بشهادة روادها، رغم وجود نظرية العوالم الموازية في الفيزياء، رغم الاطروحات التي تقدم في الغرب عن الوعي اللاحسي اي الخارج عن الحواس، رغم شهادة علماء الفيزياء ان وراء المادة وعي غير مادي هو اساس كل شيء، رغم نداء امثال اليكسيس كاريل الى دراسة الانسان بعدما وجه العلم لدراسة الجماد فقط، رغم هذا ما زال هؤلاء يبثون سمومهم لانهم عاشوا للجسد و دفنوا الروح جوهر الانسان.