-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حيٌّ على خط الهوية

حيٌّ على خط الهوية
ح.م

من الناس منْ عاش ويعيش لخاصَّة نفسه وشهواته وهواه ومصالحه، فهو شخصٌ ميت قبل وفاته وصدور بيان نعيه في الجرائد، وهو مدفونٌ قبل أن يُهال عليه التراب ويُنسى، ومثل هؤلاء يُعدُّون بمئات الملايين من الكائنات المستهلَكة في العالم، إذ لا تعني الحياة بالنسبة لهم شيئا سوى إشباع حاجات النفس ولبُناتِ الفؤاد والهوى، وهم ممن ينساهم التاريخ، بل لا يذكرهم البتة، ويُعفي عنهم الزمن بسرعة البرق، فيتلاشون من الوجود في لمح البصر.

ومن الناس من يعيش لا ليحيا لذاته ونفسه وخاصته، بل يعيش ليحيا وينهض غيرُه، ويُمضي كل حياته مجاهدا لتحيا قضية أمته العادلة، ويبذل كل ما في وسعه لتنتصر قيم هويته الفاضلة، وهذا الصنف من الناس قليل جدا، بل نادر جدا، وهم فئة الخالدين، وإلاّ فأين هم الملايين الذين رحلوا عن دنيانا الفانية ولم يوقعوا في سجلات الحياة الفاعلة والنافعة؟ وأين هي قائمة الخالدين؟ هل بقي في قائمتها مكانٌ يتسع ليصطف فيها اسم فقيدنا الغالي الراحل الأستاذ (علي فضيل)؟

ولكن الأطول حياة من هؤلاء هم الخالدون، والأبقى ذكرا هم الذين ربطوا حياتهم كلها بقضايا أمَّتهم العادلة، ودافعوا عن هويتها ولغتها ودينها ووحدتها وكرامتها وحريتها واستقلالها ونهضتها ورفعتها… ونحسب أن فقيدنا الغالي هو من هذا الصنف، فقد استطالت القائمة لتكتب اسمه في سجلّ الخالدين العرب والمسلمين.

فكم من مصلح أو كاتب أو أديب أو شاعر أو صحفي أو أستاذ أو عالم.. قرأنا عنه ووجدنا أن صيته قد ضاع، وعفى خبرُه من حياة الناس، ونحتار في تحليل هذه الظاهرة، ولكننا نجيب بسرعة إنه الصدود والنكران، ولكننا إن تساءلنا عن السبب الحقيقي وجدنا أن المسألة أبعد من ذلك، وخلاصتها أن ذاك قد صرف ولاءه وفقهه وعلمه وشعره لسلطان غشوم، وذاك قد صرف قلمه وكتاباته لصغائر وخشاش الدنيا الزائل الزائف، والآخر لإرضاء شهوة نفسه وهواه، وهكذا..

ولكن العالم أو الكاتب أو الأديب أو المصلح أو الصحفي الذي ارتبط اسمه بقضايا أمَّته العادلة هو الذي يخلد أبد الدهور، وفقيدنا الغالي من هذا الصنف، ولا أحب أن أعدِّد خصاله، فهو أكبر من أُحصيها عليه أو له، ولكنني أراه خفَّاقا عاليا: في (الشروق العربي) التي عرفتُ النشر فيها سنوات 1993م و1994م، دون أن يعرفني أو أعرفه، أو يراني أو أراه، أو نلتقي مرة واحدة، إذْ التقتْ أرواحنا حول خط العروبة والإسلام والجزائر والعرب والمسلمين وقضاياهم العادلة، إذ كنا نحيا ونعيش ونتصاحب تحت شعار ابن باديس (لمن أعيش؟ للإسلام وللعربية وللجزائر)..

كما عرفته في جريدة (الشروق اليومي) من خلال استقباله لكل مقالاتي ودفعها للنشر دون تغيير كلمةٍ واحدة، وهو لا يعرفني سوى من الصورة، وأنا لا أعرفه سوى من صورته فقط، لقد عرفته في فلسطين الجريحة، وفي أسرى فلسطين المنسيين، في قوافل غزة الجائعة المحاصَرة الجريحة، التي اجتمع عليها ظلم القريب والبعيد، وأراه في إحيائه لماضي الجزائر، وتكريمه لمجاهديها ومناسباتها الوطنية والدينية، وأراه من خلال تكريمات العلماء والشعراء والكتاب والباحثين، والاحتفاء بكل قلم ولسان وروح وقلب وعقل غيور على قضايا أمَّتنا ووطننا العادلة..

عرفته من خلال عشرات المقالات التي كانت ومازالت تدكُّ عروش الفساد والمفسدين في كل القطاعات، عرفته من خلال سلسلة المقالات التي كتبتها عن المهزلة الجامعية التي تقترف في حق أجيال وأمة بأكملها، عرفته بمقالات فضح الفساد الحاصل في الجامعة، في فضح مضامين المحاضرات الفارغة الجوفاء، وفي مطبوعات الفراغ والسَّرقة والنقل، وفي إهدار الحصص التطبيقية تلك الثروة الضائعة، وفي مقالات السرقات العلمية، وفي عسف وظلم الإدارة الجامعية، وفي الملتقيات الفارغة التي يُصرف فيها المالُ العام، وفي المجلات الجامعية الضعيفة المستوى، وفي مقالات شهادة محو الأمية (الليسانس، الماستر، الدكتوراة) التي نمنحها للطلاب الفارغين، وفي المناقشات المملّة، في الرسائل الجامعية التي تُناقش ولا تُقرأ..  عرفته في سلسلة المقالات التي هزت عروش الكثير من العمداء والمديرين الفاسدين، الذين كانت الشروق سببا في كشفهم وفضحهم وترحيلهم..

عليٌّ لم يمت، وهو حي مادام قد ضحى وترك من خلفه رجالا ونسوة شروقيين كل صباح ومساء.. ورحم الله الإبراهيمي لما رثى ابن باديس فقال بيتَ أمير الشعراء أحمد شوقي:

إن تسل عن قبور العظماء

ففي القلوب والأنفس

أخوك الذي أحبك ولم يرك: أحمد محمود عيساوي التبسي

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!