-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حَراكُ الشعوب العربية والمغالطات الواهية

بن يغزر أحمد
  • 278
  • 2
حَراكُ الشعوب العربية والمغالطات الواهية

ليس من أهداف هذا المقال الدفاع عن ما سمي بـ”الربيع العربي” فذلك لم يعد مغريا بالنظر إلى ما آل إليه الحال في البلدان التي مسّتها النسائم اللافحة لهذا الذي سمي ربيعا فإذا به يغدو خريفا مكفهرا، وتحوّلت الآمال التي عُلقت على الحراك الذي شهدته البلاد العربية مع بداية هذا العقد إلى كوابيس مفزعة يعاني منها القريب ويخشاها البعيد.

ولكن المقال يريد أن يتوقف عند بعض ما رافق هذا الحدث من مقولات قد يكون بعضها ناتجا عن نية صادقة، وتخوُّف مشروع، ولكن الغالب منها -خاصة الصادر عن بعض النُّخب السياسية والإعلامية المعادية للمجتمع العميق- ليست إلا تعبيرا عن مغالطات تندرج ضمن إستراتيجية تسطيح وتزييف الوعي، ومما يؤكد هذا الزعم أن ترحيبا عاما رافق البوادر الأولى لهذا الحراك، وما إن بدأت بعض مخرجاته في الظهور على مستوى الخيارات السياسية الشعبية حتى هرعت تياراتٌ عديدة فاقدة للتجذر الشعبي إلى التنصل منه ومن مساراته، بل والتحالف مع الثورات المضادة لصده ومواجهته، حتى أن شاعرا سوريا كبيرا صرح أنه ليس مع هذه الثورات فقط “لأنها تخرج من المساجد”، كما تجنَّدت أنظمة كاملة بكل ما تملك من أدوات التأثير لوضع حدّ لهذا المسار التاريخي.

لنبدأ من سؤال جوهري يفرض نفسه: هل من حق الشعوب إذا ماذا شعرت بالظلم أو التهميش، أو التلاعب بمقدراتها أن ترفع صوتها بالرفض؟ وهذا السؤال يدفع إلى سؤال آخر مكمل: وهل إذا كانت قواعد اللعبة السياسية لا تسمح في أحسن الأحوال لهذه الشعوب إلا بالتنفيس عن مكبوتاتها وشرعنة ما تضعه السلط من قرارات، هل يحق للشعوب في هذه الحالة أن تتجاوز هذه القواعد بوضوح وصراحة، وترفع سقف المطالب في اتجاه تغيير هذه القواعد نفسها؟

بالمنطق الديمقراطي الجواب هو بالإيجاب، رغم التحفظ الذي قد يبديه البعض بحجة احتمال تحوُّل ذلك إلى نوع من التمرد والعنف وبالتالي تغييب الاستقرار وتعريض الأمن والسكينة العامة للتهديد، مع بعض التدقيق سنلاحظ أن المسؤول عن هذا الانحراف في حالة وقوعه ليست الشعوب بالضرورة لأنها ستكون ضحيته حتما، وهي التي تدفع الأثمان كاملة في حالة وقوع ذلك، بل أن الذي يتحمّل مسؤولية هذا الانحراف هو السلط والمنظومات الحاكمة والنخب التي تحيط بها وتزين لها خياراتها.

ولا يمكن بأي حال تحميل تحرك الشعوب احتجاجا على واقع لم يعد فيه ما يرضيها أو يطمئنها لا في حاضرها ولا في مستقبلها، هذه السلط المسؤولة هي التي أغلقت كل أبواب التغيير السلس والمتدرِّج، وبرعت في وضع العراقيل الدستورية والقانونية والأمنية أمام حرية الشعوب لصياغة مصائرها، وفضلت بدلا عن ذلك الغلق الكامل والاستبداد الشامل، أو ديمقراطية الواجهة.

لن أخذ مثلا مآل الحراك الشعبي في ليبيا ضد نظام القذافي الذي حكم هذا البلد منذ 1969 بعد الانقلاب على الملك محمد إدريس السنوسي إلى غاية ثورة 17 فيفري2011 أي لأكثر من 40 سنة، وفي مصر تولى الرئيس المصري حسني مبارك الحكم سنة 1981 بعد اغتيال أنور السادات ولم يغادر إلا بعد أن أجبره الضغط الشعبي على التنحي سنة 2011 أي بعد ثلاثين سنة من توليه، وكذلك الأمر بالنسبة للرئيس التونسي، والرئيس السوري، والرئيس اليمني وغيرهم، ولو كانت هذه الأنظمة ملكية لكان الأمر مفهوما، ولو حققت هذه السلطويات المؤبدة نتائج إيجابية في التنمية والتقدّم لأمكن ربما التماس الأعذار لها.

تبالغ بعض المقولات عندما تحمّل حراك الشعوب كل ما آلت إليه الأوضاع في البلاد العربية من اقتتال ودمار وتدخل أجنبي، وتتجاهل الدوافع العميقة التي أيقظت الشعوب من سباتها الطويل، وتحاول دوما أن تُظهر هذا الحراك أنه صدى لمخططات ومؤامرات أجنبية لا تريد خيرا بالأوطان، ورغم أننا لا ننفي وجود هذه المؤامرات لكن محاولة تفسير حركة الشعوب بها حصريا ودائما، هو احتقارٌ لذكاء هذه الشعوب، وافتراض أنها لا تملك القدرة على الفعل، وأنها لا تتحرك إلا بالإيعاز ووفقا لما يخطط له الغرب أو الشرق.

وفق هذا المنطق، فإن التشكيك يمكن أن يمتد إلى كل ما قامت به هذه الشعوب في تاريخها، فلا هي قاومت الاحتلال الأجنبي في فترات سابقة، ولا هي ساهمت في استرجاع السيادة والاستقلال بتضحيات جسام، ولا يد لها في مشاريع التنمية وبناء الاقتصاد في عقود، ولا مساهمة لها في الصبر على خيارات ومسارات اختارتها النخب الحاكمة في بلدانها وأثبتت فشلَها غالبا.

هناك مغالطةٌ أخرى لطالما كانت تردِّد ولا تزال، وهي أن الشعوب العربية ليست مؤهَّلة بعد للديمقراطية، وأن زيادة منسوب الحرية حسب هذه المغالطة، سيدفعها إلى التمرُّد والانفلات والفوضى، وأسوأ ما في هذه المغالطة أنها لا تطرح في سياق التفكير في أفضل الاستراتيجيات لتعميق الحس الديمقراطي والثقافة التعددية.. بل تساق في إطار التبرير لمنطق “تأجيل الديمقراطية إلى أجل غير مسمى” بحجة أن “شروطها غير متوفرة” ما يُشرْعنُ الاستبداد إلى الأبد بذريعة “الحفاظ على الأمن والاستقرار”.

ومن المقولات المبتدَعة التي راجت عند طائفة من النخب التي تصف نفسها بالديمقراطية وبالليبرالية، أن الديمقراطية ليست صناديق وانتخابات فقط، وهو من الحق الذي لا يراد به حقا، لأن المقصود به هو تسفيه الخيارات الشعبية، ومحاولة تعويض صوت “الغاشي” (لفظ جزائري دارج يعني الدهماء) كما قال أحدُهم يوما، بالديمقراطية الانتقائية التي يمتلك امتيازها حصريا “المجتمع المفيد”، أما “الغاشي” فيجب أن يخضع إلى إعادة تأهيل وغربلة مكوّناته الثقافية والقيمية التي تقود خياراته لكي يحصل إثر ذلك على شهادة المطابقة من “الأقلية الساحقة المتنورة”، وحينئذ فقط يحق له الاختيار والانتخاب.

وكان التمحيص الحقيقي لأصحاب هذه المقولات هو في موقفهم من الانقلابات على الخيارات الشعبية في أكثر من قُطر عربي على يد الثورات المضادة المدعومة من قوى إقليمية ودولية، إذ اصطفت في أغلبها خلف دوائر الاستبداد والفساد، وراحت تبرر سياسات القمع والغلق السياسي بحجج ودعاوي واهية، وتساهم بشكل مستفز في تسطيح وتزييف الوعي.

ولو لم يكن للربيع العربي من فضل إلا إخراج مثل هذه المكنونات للعلن، لكان ذلك كافيا، لأن الكثير من هذه المقولات كانت تتداولها بعض نخب هذه التيارات –من دون تعميم طبعا- في مجالسها الخاصة، ولم تكن تملك الشجاعة للجهر بها لأنها ستضعها في موقع التناقض المفضوح مع الخطاب الذي تنتجه وتسوِّق نفسها به.

مهما قيل أو يمكن أن يقال عن الربيع العربي، وبغضِّ النظر عن كل السياقات التي يمكن أن يوضع فيها، والمنطق الذي يمكن أن يحاكَم به، فإنه شكَّل لحظة وعي شعبية تاريخية، وفي الجوهر هو ثمرة نضالات وتضحيات عقود، وهو في نفس الوقت تجربة غنية ستثري وتعزز وتراكم خبرة الشعوب العربية ووعيها من أجل مستقبل أفضل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • علي عبد الله الجزائري

    الثورات العربية نتاج تدهور وتعفن الوضع السياسي والاجتماعي في البلاد المسلمة
    للأسف جرى اختراقها استخباراتيا ،و ركبت موجتها فئات لها مصلحة من الداخل والخارج
    وهو ما زعزع هدف الثورات ،حرف مسارها و مطالبها المشروعة
    نتيجة تدخلات هذه الاجهزة في ثورات تحولت لنزاعات دموية جرت على مقربة من حدودنا
    اجبرنا على تبني حذر اكبر لمواصلة هذا الطريق في الجزائر
    لعدم وجود استراتيجية لمسار الثورة السلمية بدايتها ونهايتها
    فأي تغيير يتطلب خطط مدروسة وليس هتافات بالشوارع
    لن نفلح في مجابهة المفسدين المتواطئين بالداخل بالشعارات
    ولا مجابهة مصالح متفرقة لقوى شيطانية خارجية شعارها دوما حماية الحقوق والحريات !

  • خالد بن الوليد

    للاسف لقد تحول الحراك بالجزائر الي وسيلة هدم وتدمير وزعزعة استقرار خدمة لمصالح خارجية فرنسية وصهيونية بحتة .
    لقد تم نقل ازمات الشرق الاوسط ( نجاح باهر للمشروع الصهيوني الصليبي بالشرق الاوسط بعد تعاون ملوك الخليج وعلماء الدين في نشر الفوضي بسوريا والعراق واليمن ولبنان ) الي شمال افريقيا من طرف المنتدي الصهيوني والصليبي العالمي الذي باركه حضرة البابا بالفاتيكان -كل سياسات العالم تطبخ وتبارك بالفاتيكان مركز المسيحية الكاثوليكية العظيم والعالمي - لزعزعة الدول الغير الراغبة في اقامة علاقات مع الصهيونية كالجزائر خاصة .
    الحذر ثم الحذر يا جزائر