الرأي

حَلَب: منارة التراث العلمي العربي

ح.م

من يذكر الآن سوريا ومدنها لا يذكر سوى ويلات الحرب وأبشع صور الدمار وتشريد الأهالي. كان هذا البلد إلى عهد قريب قِبلة للسياح وللمثقفين ولطالبي العلم. ذلك أن سوريا تمكنت من الحفاظ، في أحلك الظروف، على تراث لم تستطع بلدان أخرى، رغم كل ما لديها من إمكانيات، حمايته والحيلولة دون اندثاره. ولعل أسطع دليل على ذلك ما يقدمه معهد التراث العلمي العربي.

 معهد التراث العلمي العربي

لقد تم إنشاء معهد التراث العلمي العربي الملحق بجامعة حلب يوم 4 نوفمبر 1976 بقرار من رئيس الجمهورية. ويأوي المعهد مبنى جميلا بأربعة طوابق تُطل على الجامعة، وهو يكاد يكون المعهد الوحيد المتخصص في تاريخ العلوم في الوطن العربي. تُعنى هذه المؤسسة بدراسة كل ما يتعلق بالحضارة العربية الإسلامية في مجالات العلوم الطبية والصيدلانية والأساسية (الرياضيات والفيزياء والكيمياء).

ويسعى المعهد من خلال ذلك إلى إعادة كتابة تاريخ العلوم العربية بطريقة أكاديمية حديثة تبرز للعالم إسهام الدراسات العلمية العربية الإسلامية ودورها الريادي في بناء الحضارة الإنسانية. وفي نفس الوقت، يرمي إلى ترسيخ منجزات العلماء العرب والمسلمين في أذهان جيل اليوم لتكون حافزًا قويا لطلب العلم والاستزادة منه. ولا يتأتى ذلك إلا بتوفير بيئة مناسبة للبحث والنشر، وبتكوين باحثين في هذا المجال حرص المسؤولون منذ البداية على ابتعاثهم إلى البلدان الأوربية مثل فرنسا وألمانيا.

ولذلك جاءت أبرز مهام المعهد على النحو التالي:

– جمع المخطوطات العلمية العربية وتحقيقها وترجمتها ونشرها.

– تأسيس مكتبة لجمع المخطوطات العلمية العربية الموزعة في أنحاء العالم حتى تكون مرجعًا أساسيًا للباحثين.

– إصدار المجلات والدوريات المتخصصة ونشر البحوث والمؤلفات.

– عقد الدورات المتخصصة القصيرة والطويلة المدى.

– دعوة الباحثين العرب والأجانب للإسهام في مشروعات التراث العلمي العربي.

– إيفاد البعثات للقيام بالأبحاث والتحريات الميدانية.

– العمل على إقامة متحف جامعي للتراث العلمي العربي.

– عقد الندوات والمؤتمرات المحلية والدولية ونشر نتائج أبحاثها.

 وماذا حقق المعهد؟

فتح المعهد الباب للطلبة عام 1980 فنال عشرات منهم شهادة “الدبلوم” الذي يُمنح بعد 4 سنوات من الدراسة. وإثر ذلك انتقل المعهد إلى منح شهادة الماجستير بدءا من عام 1985، وقد فاق عدد الحاصلين على هذه الشهادة مائة طالب. وبلغ الآن عدد الحاصلين على الدكتوراه في تاريخ العلوم الأساسية والطبية والصيدلانية وعلم الآثار 35 طالبا. ومن المعلوم أن منهم من أحرز على جوائز عربية ودولية توّجت أبحاثهم الراقية في التراث العلمي العربي.

وقد استطاع المعهد منذ نشأته استقطاب عديد الباحثين من مختلف البلدان الغربية، ناهيك عن الدول العربية… بل يمكننا القول إن معظم كبار الباحثين في حقل التراث العلمي العربي قد زاروا هذا المعهد زيارات علمية وأقام البعض فيه مطولا.

ومن هؤلاء الباحثين من أتى من الولايات المتحدة وكندا (أمثال إدوارد كندي، ودافيد كينج، وجورج صليبا، وعبد الحميد صبرة، وسامي حمارنة، وجون برغرن، وصالح عمر…)، ومن بريطانيا (أمثال ريتشارد لورش، وغادة الكرمي، وألبير اسكندر، ودونالد هيل…)، ومن ألمانيا (أمثال فؤاد سزكين، وبول كونيتش، وأورسولا فايسر…) ومن إسبانيا (أمثال خوليو سامسو، وسيمون حايك، وميرسيه كوميز، وأميليا كالفو، وخوان فرنيه…) ومن فرنسا (أمثال ماري دوبارنو، وأحمد جبار، ورشدي راشد، وريجيس مورولون، وفرانسواز ميشو، وفلوريال سناغوستان…). وهؤلاء هم صفوة المختصين عبر العالم في دراسة التراث العلمي العربي الإسلامي بكل تفرعاته.

وقد استفاد طلبة وأساتذة المعهد من خبراتهم في مجال تاريخ العلوم العربية، كما استفاد الزائرون من مكتباته ونشاطاته العلمية المتنوعة.

أما في مجال النشر فقد أصدر المعهد مجموعة من الكتب في حقل تاريخ العلوم، نجد فيها 16 كتاباً باللغة العربية والإنكليزية في تاريخ العلوم الأساسية و10 كتب في تاريخ الطب والصيدلة باللغة العربية والفرنسية، وهذا بالإضافة إلى عشرات الكتب التي تتضمن وقائع المؤتمرات والندوات التي عقدها المعهد وأزيد من 10 مؤلفات في شكل موسوعات وفهارس.

وبالموازاة مع كل ذلك، يُصدر المعهد مجلة أكاديمية نصف سنوية، ثلاثية اللغات، عنوانها “مجلة تاريخ العلوم العربية” تتألف هيئتها من كبار المختصين في التراث العلمي. وللأسف، فهي متوقفة الآن بسبب الظروف القاسية التي تمرّ بها مدينة حلب بصفة خاص وبلاد الشام بصفة عامة، ورغم ذلك يبذل المسؤولون في المعهد حاليا قصارى وسعهم لاستئناف نشرها.

 وهناك أيضا مجلة سنوية عنوانها “عاديات حلب” يصدرها المعهد بالتعاون مع “جمعية العاديات” تركز على منجزات العرب والمسلمين في التطور الحضاري الذي عرفته البشرية. وهذا فضلا عن نشرية علمية إخبارية تصدر إلكترونيا باللغتين العربية والأنكليزية.

وقد أسس المعهد مكتبة متخصصة في تاريخ العلوم العربية تشمل الكتب النادرة، والمخطوطات الأصلية والمصورة، والكتب المطبوعة، والموسوعات والمعاجم والقواميس والفهارس العربية والأجنبية. وتجاوز عدد الكتب فيها 20 ألف عنوان. أما المخطوطات فناهز عددها 3 آلاف مخطوط!

وللساهرين على المعهد فكرة راسخة ترى بأن إنشاء متحف للعلوم سيكون بمثابة مخبر للطلبة والباحثين ولعامة الناس حتى يدرك الجميع تطور الآلات والأجهزة على مرّ الزمن وليقفوا على دور العرب والمسلمين في تطور العلوم. وعليه فالسعي حثيث لتوفير مقتنيات عديدة ستشكل نواة المتحف، منها: أدوات من الفولاذ، وأخرى طبية قديمة، وكرات سماوية، ونماذج للنواعير، وآلات رفع الماء والطاحونات والساعات المائية. كما تتضمن هذه المقتنيات مجموعة من الأعشاب والنباتات الطبية التي كانت تستخدم في منطقة الشام. وفي هذا السياق، استضاف المعهد خبراء في إنشاء المتاحف وإدارتها للاستفادة من خبراتهم. وتجدر الإشارة إلى أن المعهد أبرم عدة اتفاقيات مع هيئات علمية وأكاديمية عبر العالم.

فكيف لا نحيّي هذه الجهود الجبارة الساعية إلى إحياء تراثنا العلمي رغم صعوبة الظروف المحيطة بحلب؟ كيف لا ندعو أن نتخذ من معهد التراث العلمي العربي نموذجا لكل من أراد حماية تراثه الثقافي والفكري؟ كيف لا نقول شكرا وألف شكر، لحَلب وأهلها على حمايتهم لهذا التراث المشترك الذي خدم البشرية خلال قرون وقرون؟!

مقالات ذات صلة