-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

خير النّاس من طال عمره وحسن عمله

سلطان بركاني
  • 1067
  • 0
خير النّاس من طال عمره وحسن عمله

ما منّا من أحد إلا وهو يتمنّى أن يطول عمره بالصحّة والعافية والرزق الوفير، وبيننا من يتمنّى أن يطول عمره ليستمتع بالدنيا طولا وعرضا، غير مبال بأمر أو نهي أو حلال أو حرام، وفي نفسه أن يتوب في آخر عمره حين يشبع من الدّنيا وتشبع منه، ويكون قاب قوسين من قبره، فيحجّ ويغسل ذنوبه ويلقى الله على حال حسنة تبلّغه الجنّة.. لكنّ من يسترسلون خلف هذه الأمنية ينسيهم الشّيطان أنّ النّفس إذا مرَدَت على حبّ الدّنيا، فليس من السّهل أن يتوب صاحبها ويصلح، حتّى يرى الموت فيحدّث نفسه بالتوبة ولكن بعد فوات الأوان.

طول العمر الذي نتمنّاه لأنفسنا ونرجوه لأبنائنا وندعو به لمن نحبّ، ليس في كلّ الأحوال خيرا ونعمة؛ فقد يكون نقمة على صاحبه، لا يزداد مع توالي الشّهور والأعوام إلا غفلة، ولا يزداد قلبه إلا قسوة وإقبالا على الدّنيا وحرصا عليها ومنافسة في متاعها الزّائل، ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون﴾ (البقرة: 96).. الشّيطان لا يفرح بنية ينعقد عليها قلب عبد من عباد الله كفرحه بنية الاستمتاع بالعمر في الغفلة عن الله والدّار الآخرة وتأخير التوبة إلى أواخر العمر أو تعليقها بوقت أو موسم معيّن، لأنّ الرّجيم يعلم أنّ العبد متى كانت هذه نيته، كان فريسة سهلة لوساوس الشّيطان وإملاءاته، كلّما سمع كلمة يخالج قلبه أو وقف موقفا يحرّك في داخله الوازع والضّمير ويحرّك بذرة الخير، إلا قالت له نفسه: لا تستعجل، أمامك عمر طويل، فلا تغبنّي بتوبة تقتلني بها قبل الأوان (!) وهكذا حتّى يموت القلب، ويمسي صاحبه من شرار الخلق وأبعدهم عن الله وهو لا يدري؛ في الحديث أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم سئل: أيّ النّاس شر؟ فقال: “من طال عمره، وساء عمله”، ولهذا فإنّ الشّيطان قد يتمنّى للعبد أن يطول عمره ويصل إلى أرذله، فيشمت به وهو يفارق الدّنيا على أسوأ حال، وعلى غير ما كان العبد يخطّط له! وتبلغ الشّماتة منتهاها حينما يقول الشّيطان للعبد الذي أضاع عمره: ((إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)).. ويوم القيامة؛ عندما يُسأل من أنفق عمره في اللّهو واللّعب والشّهوات، وكان يخطّط للتّوبة في آخر عمره: ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِين﴾؟ سيكون جوابه: ﴿لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّين﴾، ثمّ عندما يَطلب مهلة أخرى لتعويض عمره الذي خسره، سيكون الجواب الذي يقطّع القلب حسرة، ويعلم معه اللاهي العابث أنّ الأمر قد حُسم: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِير﴾، ويدرك أنّه خسر عمره ونفسه: ﴿قُلْ إنَّ الخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهم وأهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ ألا ذَلِكَ هو الخُسْرانُ المُبِينُ﴾ (الزّمر: 36).

في مقابل هذا، فإنّ العبد إذا تفطّن لنفسه الأمّارة بالسّوء، وعرف مداخل الشّيطان إليها، فألجمها عن هواها، وأقامها على طاعة الله، في أيام الشّباب والصّحة والعافية، فإنّها مع الفشل بعد كلّ محاولة والخيبة بعد كلّ مراودة، لا يطول بها الأمر حتى تذعن لصاحبها على طريق الصّلاح وتطاوعه عليه، وتتحوّل من نفس أمّارة بالسّوء إلى نفس لوّامة، وتصبح سريعة إلى طاعة الله، بطيبة راغبة عن معصية الله، حتّى لو زلّت فإنّها لا ترضى الزّلل ولا تدوم عليه، بل تشعر بالضيق والنّدم وتسارع إلى العودة من قريب، وهي حال لو طال لصاحبها عمره، فإنّ نفسه تنتهي بأن تصبح نفسا مطمئنّة، ويمسي العبد من أسعد النّاس بأيامه وسنواته في هذه الدّنيا؛ حينما سئل النّاس النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: أيّ النّاس خير؟ قال: “من طال عمره، وحسن عمله”، وفي آخر لحظاته من الدّنيا يلقى البشارة التي طالما عمل لها: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾، ثمّ في القبر يأتيه عمله الصّالح في صورة رجل حسن الوجه طيب الريح حسن الثياب، فيقول له: يا هذا أبشر برضوان الله وجنات فيها نعيم مقيم. فيقول العبد: وأنت فبشّرك الله بخير، فمن أنت، لوجهك الوجه يبشر بالخير؟ فيقول: “أنا عملك الصالح، فوالله ما علمت إن كنت لسريعا في طاعة الله بطيئا عن معصية الله فجزاك الله خيرا”.

طول العمر مع الصّلاح، نعمة من أجلّ نعم الله على عبده، ما يزداد مع توالي أيام عمره إلا قربا من الله وإرغاما للشّيطان؛ أجور الصيام والقيام والصّدقة والإحسان تُزاد وتضاعف، في كلّ يوم تُزاد أملاكه من القصور والأملاك والعيون والأشجار والأنهار في الجنّة، وترفع درجته حتى يقترب من الدّرجات العلى. النّاس حوله يتنافسون في أملاك الدّنيا وعينه على أملاك الآخرة.

في واقعنا، نرى من حولنا من طالت أعمارهم وعاشوا عقودا طويلة، لكنّها طالت باللّهث خلف الدّنيا، حتّى إنّك ترى الشّيخ في العقد الثامن أو التاسع من عمره، وهو لا يزال يرمق بعينه النّساء في الشّوارع. يخاصم أقاربه وجيرانه في متاع من الدّنيا قليل، ويقف في المحاكم وأطرافه ترجف لأجل أشبار من الأرض! ونرى في المقابل شيوخا مباركين، طالت أعمارهم بالخير، يسعون بين النّاس في دنياهم، لكنّ قلوبهم زاهدة في المتاع الزّائل، يحثّون الخطى إلى بيوت الله لا تفوتهم صلاة، جباههم لا تفارق سجادة الصّلاة إلا قليلا، يقومون في ثلث الليل الأخير، ويصومون ويتصدّقون، وجوههم بيضاء وكلامهم أحلى من الشّهد.. ولعلّ من هؤلاء الذين نحسبهم ممّن طالت أعمارهم وحسنت أعمالهم: شيخنا العلاّمة الطّاهر آيت علجت -حفظه الله ومتّعه بالصحّة والعافية- الذي يرى النّاس البركة ماثلة في عمره وكلامه ومحيّاه، لا تفارق البسمة وجهه ولا يفتر لسانه عن الدّعوة إلى الخير والدّعاء به لأمّة الإسلام، نحسبه من الصّالحين المصلحين المباركين.. وقريب منه الأخوان “عبد الرحمن” و”سعيد” شيبان، رحمهما الله؛ هذا الرّجلان اللذان يشهد الجزائريون جميعا بالأثر الطيب الذي تركاه خلفهما، بعد عمر طال بالخير والعطاء.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!