الرأي

دفاعًا عن التلميذ!

يعرف قطاع التربية في الوقت الراهن غليانا كبيرا وحركة إضرابات لا تنتهي. وليس قطاع التربية وحده الذي يعاني من هذا الأمر. واللافت أن كل القطاعات المحتجة تشتكي من تدنّي القدرة الشرائية إلى جانب مطالب مهنية أخرى. وهذه حقيقة لا ينكرها أحد، والمواطنون جميعهم مدركون لظاهرة تدهور القدرة الشرائية لأنهم يعيشون ويلاتها يوميا. وما يهمنا هنا هو قطاع التربية والتعليم، والتساؤل عما إذا كان الوضع يبرر غلق باب المدرسة في وجه التلميذ من قِبل المربين؟

كان أدْعَى بالمربّين…

فرغم وجود هذه الضائقة واستفحالها، هل هذا هو الوقت المناسب لتعطيل المدارس؟ أليس كافيا ما يصيب المدرسة اليوم من انتكاس بسبب جائحة كورونا وغيرها وتلقي التلاميذ تقريبا نصف المنهاج المسطرة، وهذا في أحسن الأحوال؟ وهل يكمن الحل في التوقف عن العمل ونحن على مقربة من نهاية السنة الدراسية للمطالبة برفع الأجور؟

وهل الحالة النفسية للتلميذ ولأوليائه تجيز للمربين في هذا الوقت بالذات غلق أبواب المدرسة في وجه هؤلاء؟ وهل تلك الحالة النفسية، التي يعاني منها الجميع، بمن فيهم المربي والإداري، تجيز مثلا لمجلس مديري الثانويات التهديد بمقاطعة العمليات الخاصة بامتحانات البكالوريا وغيرها؟

كان أدعى بالمربين أن يطالبوا مثلا، والظروف هذه، بتخفيض رواتب من يتقاضى أجرا في القطاعات التابعة للدولة يفوق سقفا معينا مقارنة بالحد الأدنى للأجور.

وكان أدعى بالمربين أيضا، بحكم أن بعضهم لهم ضلع في الصراع السياسي، أن يطالبوا مثلا بسنّ قانون يقضي بألا يتقاضى المنتخبون الجدد أجرا في الهيئات المنتخبة والاكتفاء بعلاوة تدفع لهم خلال مدة عهدتهم، وأن يفتح هؤلاء البرلمانيون بعد ذلك ملف أجور أسلافهم وأمثالهم ممن تستنزف أجورهم المرتفعة خزينة الدولة.

كان أدعى بالمربين، بحكم تجربتهم، إبداء الرأي في المناهج التربوية وإصلاحها، وكذا اقتراح حلول للحد من ظاهرة لجوء التلاميذ إلى الدروس الخصوصية التي تنهك القدرة الشرائية للأولياء في جميع أطوار التعليم، بما فيه الجامعي، ناهيك عن مساوئها الأخرى.

كان أدعى بالمربين تقديم اقتراحات مختلفة تُعنى بالشأن البيداغوجي… وإلا فما الفرق بين المربّي وبين عامل البريد الذي أغلق بريده في وجه المتقاعدين المساكين وبقية المواطنين في منتصف الشهر الميلادي وبداية رمضان بعد كل ما عاناه المواطن ويعانيه في مختلف أرجاء الوطن من نقص السيولة الذي لم ينته إلى اليوم؟

“حكمة” منظمة أولياء التلاميذ

ثم هل من الحكمة أن تنتفض المنظمة الوطنية لأولياء التلاميذ ضد تصريح وزير التربية في مجلس الأمة بخصوص التسرب المدرسي وعلاقته بالمدارس القرآنية، ولا تنتفض أمام حرمان أبناء أعضائها من مزاولة دراستهم في المدارس الحكومية؟ كيف ترضى منظمة -لها هذه الصفة- بحرمان أبنائها من الدراسة بينما يتابع التلاميذ الآخرون في المدارس الخاصة نشاطهم دون اضطرابات تُذكر، وكأن مدرّسيها راضون بوضعهم وبمستوى أجورهم؟ يذكرنا هذا الوضع بوضع بعض البلدان وجامعاتها التي تطلب من المسجل فيها دفع مقابل مادي على كل مقرر يدرسه. لم نسمع قط أن الطلبة أو الأساتذة يضربون يوما على الدراسة في تلك البلدان، بينما يضرب طلابنا وأساتذتنا شهورا بأكملها دون الشعور بحرج.

وهل من الحكمة أن تُؤوَِّل المنظمة الوطنية لأولياء التلاميذ وغيرها من الأفراد والجماعات، ردّ الوزير على سؤال أحد البرلمانيين حول التسرب المدرسي، تأويلا استفزازيا يزعم أنه يُعبّر عن دعوة إلى غلق المدارس (أو المساجد) القرآنية؟! وبعد الاستماع إلى هذا التصريح، كان واضحا بالنسبة إلينا (على الأقل) أن جزءا من صياغته كان سيئا، والأرجح أن ذلك راجع إلى سرعة صياغة الإجابة عن السؤال الشفوي. وهذا ما فسح المجال للاهثين وراء الإثارة الإعلامية، وربما الراغبين إلى إثارة الفتنة ليصولوا ويجولوا ويعبثوا. فراحوا يؤوِّلون ويستخلصون المزاعم وينشرون البلبلة في النفوس. والغريب أن بعض المؤيدين لقيام المدارس القرآنية والمناوئين لها التقت آراؤهم في استغلال هذا التصريح وتأويله على هواهم.

والمقصود من هذا التصريح كان واضحا، ويعني أن ظروفا إجتماعية مختلفة تمرّ بها مجموعة من التلاميذ تدفعهم، بعد تسربهم المدرسي، إلى الالتحاق بالمدارس القرآنية، ولعل بعضهم ينجلبون خلال دراستهم لأسباب شتى نحو هذا النوع من المدارس قبل بلوغ سنّ السادسة عشر. وتعقّب جانب الإثارة والمزايدة جعلت المنظمة الوطنية لأولياء التلاميذ تدعو رئيس الجمهورية إلى التدخل!!

قطاع التعليم والإضرابات

في الواقع، نعتقد أن أسباب التسرب المدرسي يتطلب من وزارة التربية نظرة أكثر عمقا وشمولية، ويستدعي منها عملية إحصائية مفصلة ومتابعة ميدانية قصد تدقيق الأسباب، ومن ثم اقتراح الحلول الممكنة وتقليص عدد المتسربين. ولا ندري ما الذي منع الوزارة قبل اليوم من القيام بهذه المهمة، ولها من الهياكل القائمة ما يمكّنها من ذلك.

لا شك أن هذا الرأي لا ينسجم مع رؤى من يشغلون الساحة من النقابيين والزملاء التابعين لوزارة التربية، لكننا لسنا مطالبين بتأييدهم في أمر نرى فيه تناقضا كبيرا. ولمن لا يعلم، فكاتب هذه السطور يمارس مهنة التعليم منذ السبعينيات دون أي انقطاع، ولم يشغل أي منصب إداري، ولم يحظ بأي ترقية منذ نحو 20 سنة. فلا أحد يزايد على أحد في هذا المجال.

إن قطاع التربية والتعليم (بما فيه التعليم العالي) قطاع حساس، ولا نشك في أن جلّ مطالب أهله من سلك التدريس أو السلك الإداري شرعية، لكن وضعيته تستدعي البحث عن تحقيقها بوسائل أخرى غير الإضرابات والانقطاعات عن العمل.

ذلك أننا حينما نعدّد فترات الإضراب التي يعيشها التلميذ الواحد خلال مشواره الدراسي الأول (12 سنة من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الثانوية)، ثم أثناء مشواره الثاني في التعليم العالي (من 3 إلى 5 سنوات) نلاحظ أن هذا التلميذ يضيّع سنوات عديدة من عمره قبل حصوله على شهادته. وبالتالي، فمن تحصيل الحاصل أن تكون شهادته منقوصة مهما بذل من جهود. فما ذنبه أن يُتخذ في كل مرة كبش فداء ورهينةً لتلبية مطالب غيره؟! ليست هناك أخلاق سماوية أو وضعية تجيز لنا ذلك.

مقالات ذات صلة