-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

دمشق‭!!‬

أمين الزاوي
  • 6329
  • 0
دمشق‭!!‬

نزلت بها في شهر أكتوبر من العام 1979، كان ذاك نزولي الأول بها، كانت دمشق تستقبل الخريف في غبار ومطر مغبر ينزل على سطوح بعض السيارات وزجاج نوافذها وعلى رأسي، كانت شوارع دمشق فارغة أو تكاد، حافلات عمومية قديمة تنقل الناس بين الأحياء من أهل المدينة أو من الذين‭ ‬يفدون‭ ‬يوميا‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬ريفها‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬مدن‭ ‬داخلية‭ ‬أخرى،‭ ‬وبعض‭ ‬سيارات‭ ‬أجرة‭ ‬مهترئة‭ ‬تعود‭ ‬بعضها‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬ولكنها‭ ‬مزوقة‭ ‬ومريحة‭ ‬وفيها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الإبهاج‭ ‬والموسيقى‭ ‬وإبريق‭ ‬الشاي‭. ‬

لم يكن في مكتبات دمشق كتيبات الإرشاد السياحي، لذا فقد تعرفت على دمشق من خلال تنقلاتي اليومية الراجلة أو عبر وسائل النقل المثيرة، حيث الجو الشعبي والنكتة والاحترام، من خلال التجوّل المفتوح الخاضع لمنطق الذهاب في كل الاتجاهات والعودة إلى نقطة الانطلاق، حيث الفندق الذي كنت أقيم به وسط المدينة غير بعيد من ساحة المرجة الشهيرة، كان يسمى فندق إنترناسيونال، وقد أصبح يسمى لاحقا فندق قرطاجنة، من منطق الضياع المقصود هذا نزلت ذات يوم ضيفا على الشاعر نزار بني المرجة، كان يقيم في حي المأمون أو حي اليهود، قريبا من ميدان ابن عساكر، وحين سألت عن هذا الاسم، قيل لي إنه مؤرخ دمشق، ولاحقا عرفت أسرارا كثيرة عن هذه المدينة من خلال هذا المؤرخ، أشياء يختلط فيها التاريخي بالأسطوري، الخرافي بالحقيقي، ومن هذا التجاور بين الواقعي والمتخيّل صنعت دمشق صورتها.
لقد أدهشني ابن عساكر بما كتبه عن المدينة، وتساءلت وأنا أزن بعيني قبل القراءة كل هذه المجلدات التي كتبها هذا المؤرخ عن دمشق، وتساءلت لكم كان عظيما هذا الحب الذي يكنه ابن عساكر لهذه المدينة ولغوطتها وبساتينها التي أكلها الاسمنت لاحقا.
لو لم تكن دمشق بهذا السحر والجمال لما جاءها ابن عربي واختار ترابها لينام فيه، ولما فضّلها الأمير عبد القادر على باريس وإسطنبول والقدس، وهو الآخر انتقاها لتكون مرقده الأخير، هي دمشق لها سحرها ولها سرها ولها بردى الذي أنشده أمير الشعراء والأخطل الصغير والجواهري‭ ‬وخليل‭ ‬حاوي‭ ‬وسعيد‭ ‬عقل‭ ‬والبياتي‭ ‬وآخرون‭.‬
تركب‭ ‬سيارة‭ ‬أجرة‭ ‬وبمجرد‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬بأنك‭ ‬أجنبي،‭ ‬يتعفف‭ ‬في‭ ‬أخذ‭ ‬أجرته،‭ ‬والسائق‭ ‬ليس‭ ‬بصاحب‭ ‬السيارة‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬يشتغل‭ ‬عليها‭ ‬بالتناوب‭ ‬مع‭ ‬آخرين،‭ ‬إن‭ ‬السيارة‭ ‬ملك‭ ‬لأحد‭.   ‬
سرت في شوارع المدينة الراقية منها والحارات الشعبية، جلست في محلاتها المختلفة، مطاعم ومقاهي، محلات شعبية أو أخرى راقية، دخلت بيوتات الدمشقيين من الأغنياء الميسورين ومن الفقراء ومن المثقفين يسارييهم وليبرالييهم، ولم أشاهد في دمشق، طوال إقامتي بها أربع سنوات،‭ ‬خصاما‭ ‬بين‭ ‬اثنين،‭ ‬لم‭ ‬أسمع‭ ‬سبابا‭ ‬بين‭ ‬مواطنين‭ ‬في‭ ‬الشارع،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬يتعارك‭ ‬السوريون،‭ ‬كيف‭ ‬يستعملون‭ ‬أياديهم‭ ‬للاعتداء‭ ‬أو‭ ‬الضرب‭ ‬إذ‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أر‭ ‬ذلك‭ ‬أبدا‭.‬
عرفت‭ ‬المدينة‭ ‬أزمات‭ ‬كثيرة،‭ ‬انقطاع‭ ‬أو‭ ‬شح‭ ‬الأرز،‭ ‬وكان‭ ‬الناس‭ ‬يتمّونون‭ ‬بواسطة‭ ‬بونات‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬السوق‭ ‬الموازية‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬هدوء،‭ ‬الفقر‭ ‬المدقع‭ ‬ولكن‭ ‬الناس‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬عليها‭ ‬ذلك‭.‬
طعام‭ ‬الناس‭ ‬طماطم‭ ‬وخيار‭ ‬وحمص‭ ‬وأرز‭ ‬وبصل‭ ‬وموسيقى‭ ‬وقنينة‭ ‬عرق‭ ‬ودبكة‭. ‬
في الصباح، عند كل صباح من الصباحات التي يمطرها الله على هذه المدينة الأسطورية تفتح شباك غرفتك، فلا تسمع سوى صوت فيروز قادم من أجهزة راديوهات عتيقة أو مسجلات بالية، جميع البيوتات والمحلات وفي الحافلات وسيارات الأجرة وفي الورشات لا يسمع سوى صوت فيروز. شعب كله‭ ‬يحب‭ ‬فيروز،‭ ‬ويغنيها،‭ ‬وكأنما‭ ‬خلقت‭ ‬فيروز‭ ‬خصيصا‭ ‬للشام،‭ ‬أجيال‭ ‬متلاحقة‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬اختلافات‭ ‬طفيفة‭ ‬بين‭ ‬جيل‭ ‬وآخر‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يفرط‭ ‬في‭ ‬فيروز‭. ‬شعب‭ ‬ولد‭ ‬وتربى‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭.‬
ما‭ ‬سمعت‭ ‬امرأة‭ ‬تهان‭ ‬في‭ ‬شارع،‭ ‬ولم‭ ‬أر‭ ‬فتاة‭ ‬تمس‭ ‬كرامتها‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬أو‭ ‬زقاق‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬مارة،‭ ‬قد‭ ‬يعاكس‭ ‬السوري‭ ‬الفتاة‭ ‬لكنها‭ ‬المعاكسة‭ ‬التي‭ ‬تأخذ‭ ‬نعومة‭ ‬كلامها‭ ‬من‭ ‬الأغاني،‭ ‬ومن‭ ‬الكلام‭ ‬الشعري‭ ‬العالي‭.‬
طوابير على الخبز في أفران شعبية، صيفا وشتاء، ولا أحد يمر قبل الآخر، صفوف واحترام، والناس تعرف بعضها بعضا، صحيح أن بعض المجندين والمخابرات كانوا يكسرون هذا الاحترام، فيتسامح العامة معهم، خوفا.
كنت‭ ‬بدمشق‭ ‬حين‭ ‬تم‭ ‬تفجير‭ ‬مركز‭ ‬المخابرات‭ ‬بشارع‭ ‬بغداد،‭ ‬زلزلت‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬تحتنا،‭ ‬كنت‭ ‬مقيما‭ ‬غير‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬الانفجار،‭ ‬بحي‭ ‬عين‭ ‬الكرش،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬الأحياء‭ ‬العريقة‭ ‬بالمدينة‭. ‬
مع تفجير شارع بغداد كان ذلك في العام 1981 وأحداث حماة، ونزول عناصر قوات سرايا الدفاع التابعة لرفعت الأسد واعتداءاتهم على النساء، بدأت دمشق تتغير، بدأ الخوف، وخفتت الموسيقى قليلا ليسمع صوت الرصاص، خفت الكلام الرقيق قليلا ليرتفع الكلام الناشز الحاد، كلام المخابرات‭ ‬الوقح‭.‬
وشعرت ببداية تغيّر سلوك المواطن السوري، وتغيّر قاموسه، واختفت فجأة دمشق بردى وفيروز واستوطن المكانَ والشوارعَ رهطٌ من السماسرة، سماسرة السياسة والعمران وفاضت الأرياف على المدينة، وتشكلت مدينة غريبة على أطراف دمشق، أكلت جبل قسيون وحوّلت بردى إلى مفرغة عمومية‭.‬
وظهر السوري الذي يرفع صوته ويسب، وسائق الطاكسي الذي يرفض الزبون أو يسرقه، لا عداد سوى مزاج السائق، وظهرت الموسيقى الهابطة واختفت فيروز شيئا فشيئا، وتغيّرت دمشق، وسكت ابن عساكر. وما عادت مآذن المساجد ترسل أصوات مؤذنيها ذوي النغم العالي الذي يدفع للتسامح. إذا‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬درجة‭ ‬تسامح‭ ‬المدن‭ ‬الإسلامية،‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تسمع‭ ‬إلى‭ ‬أصوات‭ ‬مؤذنيها‭ ‬ساعة‭ ‬الفجر‭.‬
ها‭ ‬هو‭ ‬الشعب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يرفع‭ ‬فيه‭ ‬المواطن‭ ‬صوته‭ ‬على‭ ‬آخر،‭ ‬ها‭ ‬هو‭ ‬يرفع‭ ‬البعض‭ ‬مسدسه‭ ‬على‭ ‬بعض‭. ‬ها‭ ‬هي‭ ‬الشوارع‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬عتبات‭ ‬بيوتها‭ ‬لشرب‭ ‬قهوة‭ ‬العصر‭ ‬تحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬متاريس‭ ‬أو‭ ‬عتبات‭ ‬لقهوة‭ ‬الجنازات‭.‬
لدمشق‭ ‬أقول‭: ‬خوفي‭ ‬عليك‭ ‬يا‭ ‬أسطورة‭ ‬المدن‭.‬

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!