-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

دوراري وحشادي وحوار الطرشان

دوراري وحشادي وحوار الطرشان
أرشيف

تابعتُ الحصة التي بثتها قناة “الشروق” الإخبارية بعنوان: “البحث في الدين بين الأنثروبولوجيا والمقاربة الفقهية” والتي دُعي إليها عبد الرزاق دوراري مدير المركز اللغوي لتعليم الأمازيغية والأستاذ عبد الحميد حشادي، وكنت أنتظر من حشادي أن يرد على ما قاله دوراري في حصة سابقة من أن “الذكاء السياسي لمحمد بن عبد الله -باسمه البشري وليس بوصفه النبوي – قد استطاع أن يجمع ويوحد الرموز الوثنية في رمز واحد والذي يعني بكل وضوح أن الحج في صورته الإسلامية ليس إلا نتاجا لهذه الوثنيات”!

لم يردّ حشادي على مقولات دوراري بالطريقة  العلمية التي كنت أنتظرها بل رد عليها بطريقة عارضة لا تركّز على نقد جوهر الفكرة التي جاء بها دوراري وهي فكرة مصادمة وهادِمة للمعتقدات والأدبيات الإسلامية حول الحج، وإنما تركز على قضايا معادة ومكررة من شاكلة الحديث عن تاريخ البيت العتيق من العهد القديم إلى العهد الإبراهيمي إلى العهد النبوي، وأكثر من ذلك فكلام حشادي قد عالج الإشكال بالإشكال وتحاشى النقد الجادّ وكأن الرجل كان يريد أن ينأى عن الصدام مع ضيفه لسببٍ أو لآخر مع أن المطلوب والمرغوب في مثل هذه اللقاءات أن تسقط كل هذه الاحترازات والاعتبارات لأن الحقيقة جديرة بالاتِّباع والحق أحق أن يُتَّبع.

أعرف -كما يعرف كثيرون- بأن عبد الرزاق دوراري ينتمي إلى التيار الإيديولوجي الذي ينظر إلى الدين أو الموروث الديني بصفة عامة نظرة ابستمولوجية تعطي الأولوية -و ربما الأولوية المطلقة- للمنهج الأنثروبولوجي لتفسير الظاهرة الدينية بكل مكوِّناتها التاريخية والعقدية والتشريعية، وأعرف أيضا بأن دوراري -بغض النظر عن الاختلاف الفكري بيننا وبينه- يمتلك رصيدا لغويا مكَّنه من وضع تصورات ومقاربات لأشكال لغوية مختلفة وخاصة تلك التي عاشت أو تعايشت معا في بيئة واحدة، ومن ذلك المقاربات والترجمات التي يجريها فيما يتعلق بتاريخ اللغة الأمازيغية في تعاملها مع الموروث اللغوي الروماني وفي تعاملها مع الموروث اللغوي العربي، وأعرف أيضا بأن تمسك دوراري بالمنهج العلمي في كل صغيرة وكبيرة وكل شاردة وواردة هو الذي وضعه في الجهة الأخرى المناهِضة للخطاب الديني وليس للدين -كما يؤكد في لقاءاته العلمية والإعلامية- والدليل على ذلك اعترافه في حصة “استدراكية” – إن صح التعبير- بقناة “الشروق” الإخبارية بأنه يحترم كل الديانات ويحترم الإسلام والشعائر الإسلامية وأن كونه باحثا في العلوم الإنسانية والاجتماعية يحتم عليه -كما قال – أن يلتزم بالعقد الأخلاقي للباحث الذي يقوم على احترام الخصوصيات والقناعات الشخصية مع ضرورة التفريق -كما أضاف- في مجال المقاربة الدينية بين الدين من حيث هو تصوُّرات ومبادئ إيمانية وبين الخطاب الديني الذي يعدُّه مسألة مختلفة تماما وهو مناط الخلاف.

لا ننكر بأن دوراري واحدٌ من أعمدة البحث الأنثروبولوجي والاجتماعي، وكونه كذلك كان يقتضي أن يتصدى لمحاورته من يمتلك رصيدا معرفيا في هذا الجانب حتى يحقق الحوارُ ثمرته المرجوَّة ويفضي إلى تحرير مواضع النزاع، وهذا ما لم يتحقق في الحصة الأخيرة التي بثتها قناة “الشروق” الإخبارية حول البحث في الدين بين الأنثروبولوجبا والمقاربة الفقهية، إذ لم يكن عبد الحميد حشادي -في تقديري- موفقا ولا مؤهّلا  للحديث في أنثروبولوجيا الدين الذي هو اختصاصٌ علمي نوعي قائم بذاته لا يتصدى له إلا من يمتلك أدواته وآلياته فلكل علم رجاله ولكل فن فرسانه. ولعل بُعد الهوة بين المتحاورين هو الذي جعل الحوار أشبه بحوار الطرشان يهيم  فيه كل منهما في واد ولا يدري أحدهما ولا يفقه ما يتحدَّث عنه الآخر، علاوة على موقف الرفض المسبق في مخيلة كل منهما بالنظر إلى اختلاف القناعات والمرجعيات.

إن حوار الطرشان بين دوراري وحشادي هو الذي حرم جمهورا عريضا من المشاهدين من تمييز الحقيقة من الخرافة فيما يتعلق بالحج، حقيقة التوحيد التي جاء بها النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، ومحض الخرافة التي جاءت بها الوثنيات العربية. وفي ضوء هذا التمييز يبطل زعم دوراري بأن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم “قد عمل على توحيد هذه الوثنيات والرموز الدينية في رمز واحد”، وهذه مغالطة كبيرة لأن الجمع بين الحقيقة والخرافة والتوحيد والشرك جمعٌ ممتنع لانتفاء العنصر الجامع.

إن حديث دوراري عن الرمز الديني حديثٌ يفتقد إلى كثير من الضبط؛ فالمتخصصون في الرمز الديني من علماء الأنثروبولوجيا الدينية يقولون إن وحدة الرمز الديني لا تتحقق إلا بوجود عنصر ديني جامع، ولا تكفي في ذلك وحدة العنصر البيئي والاجتماعي، ولذلك نجد مؤرِّخي المسيحية على سبيل المثال يستدلُّون بالنصوص الإنجيلية للدلالة على أن بيت المقدس في التصور المسيحي المنقول عن السيد المسيح يجب أن تكون بيتا للعبادة وليس مغارة للصوص، وهذا يعني رفض المسيح للصورة الوثنية التي كرستها اليهودية لبيت المقدس.

لا شك أن ما قاله دوراري بشأن شعائر الحج مستفزٌّ لمشاعرنا جميعا، ولا ريب أيضا بأن حشادي لم يكن على درجة كافية من التمكُّن العلمي  للرد على جليسه، ولا شك أيضا بأن إعطاء دوراري فرصة أخرى لتكرار ما قاله في غياب أو بالأحرى تغييب تامّ للمتخصصين يعدُّ إجحافا لحق المشاهد في معرفة الحقيقة فكان “أستوديو” النقاش أشبه بميدان يعدو فيه حصانٌ واحد.

وحرصا على الأمانة العلمية أنقل كلام دوراري بشأن شعائر الحج بكل حرْفية ثم أعلق عليه بما يسعني، يقول دوراري: “.. من حيث الأنثروبولوجيا، إن لم يكن هناك رمزٌ لا يمكن أن تسير جماعة، الرمز الذي يوحِّد وتنصهر فيه الجماعة. هل الحج إلى بيت الله حرامٌ أم حلال؟ هو من العادات الوثنية لأنه كان رمزا لكل القبائل العربية المشتَّتة في شبه الجزيرة العربية وخارجها، الطواف حول الكعبة، الحجر الأسود عادة وثنية، الصفا والمروة كذلك كان العرب يجرون إلى صنم ثم يجرون إلى صنم آخر، الذكاء السياسي لمحمد بن عبد الله بدلا من أن يحرِّم مظاهر التعبُّد كما كان ينبغي أن يفعل انطلاقا من الديانة التي جاء بها، جمعَ هذه الرموز لأنها رموز جامعة لكل القبائل العربية”!

في كلام دوراري ما يُؤخذ وما يُردّ، ولكن للأسف ما يُردّ منه أكثر مما يُؤخذ، فما يُؤخذ أن الجماعة سواء كانت جماعة دينية أو غيرها تحتاج إلى رمز يقودها إذ القاعدة في ذلك أنه لا يصلح الناس لا سراة لهم، ولكن مما يُؤخذ عنه القول بأن الرمز الديني الضروري للجماعة ضروري أيضا للجمع بين مظاهر الوثنية ومظاهر التوحيد، وفي الحالة النبوية لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم بالجمع بين الرموز الدينية في رمز واحد أو توحيد الوثنيات كما قال دوراري بل جاء لقطع دابر هذه الوثنية وإزالة آثارها من الجزيرة العربية “وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا”، وجاء ليزيل الاعتقاد الوثني بشأن الحجر الأسود، ولعمر بن الخطاب مقولة مشهورة في ذلك وهي قوله مخاطبا الحجر الأسود: “إني أعلم أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبَّلتك”، وجاء ليبدِّل العرب الوثنين المتمسحين بإساف ونائلة بعد دخولهم في الإسلام بالسعي بين الصفا والمروة، هذه هي حقيقة شعائر الحج في الإسلام، وأما قاله دوراري فيندرج ضمن المعرفة المبعثرة والمتعثرة والمفتقِرة إلى الدليل، القابع أصحابها في سراديب التمذهب الفكري.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • جزائر العجائب

    من ولد في العاصمة لن تخيفه الرياح يا سي بولروايح

  • جزائري

    هناك قاعدة معروفة وهي العلم والنقل لايتعارضان ، أما إذا وجد إختلاف أوتناقض بينهما فى موضوع ما ،فالقصور والعجز فى العلم وليس فى النص القر آني، لأن العلم الإنساني " الأنثربولوجية " مثلا ،هو منتوج العقل البشري الذي يحتمل الصواب والخطأ ، أما النص القرآني فهو كلام الله المنزه عن الخطأ مطلقا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. تنزيل من حكيم حميد. وشعيرة الحج وشعائرها هي من التشريع الإلهي بنص القرآن وليست من تشريع الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى أصحابه الأبرار الطاهرين صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين . اللهم أهد من شطت بهم أفكارهم إلى الحق ، وإلى صراطك المستقيم.

  • okba

    مناظره علميه كان الاكثر موضوعي الدكتور دوراري ولمادا تريدون مسبقا ان يكون الاخر هو المقنع انه منطق معزه ولو طارت مهما يكن فان ملاحظاتك لم تاتي بجديد ياليتنا لنا عشره من طراز دوراري انه تفكيره حر لا يتاثر بالتيارات ولا ينحاز وبالتالي فتحليلاته تضد الانتباه ونتشوق لها