الرأي

ذات المأساتين

أقصد بـ “المأساتين” جريمتي الغربيين في أمتنا العربية، هذان الجريمتان اللتان تولّى كبرهما الفرنسيون في الجزائر، والإنجليز في فلسطين، ومن ورائهم ومعهم جميع المستعمرين.

فأما الجريمة الأولى فهي التي تولّى كبرها أوقح مخلوقات الله – عز وجل- وهم الفرنسيون، الذين جاءوا أرضنا خماصا ظماء، فامتلأت بطونهم، وارتوت عروقهم، بعدما اغتصبوا أرضنا، وأخرجونا من ديارنا، وتمتعوا في بلادنا، بعدما أصبح آباؤنا وأجدادنا فيها “غرباء” و”دخلاء”، وصار فيها أولئك الفرنسيون هم “الجزائريين” ونحن “أنديجان”، والفرنسيون كما يقول فرحات عباس “إن لم يجدوا من يكذبون عليه كذبوا على أنفسهم”. ألا بعدا لهم.

وقد استمر أولئك الأوباش متمتعين في الجزائر، حتى أحق الله الحق، وأبطل الباطل، بعدما غير آباؤنا الأقربون ما بأنفسهم، فغيّر الله – عز وجل- ما بهم، وطردوا الفرنسيين بعدما أذلوهم في جهاد دام سبعا شدادا، وأقول أذلّوهم، لأن الفرنسيين يحسبون أنفسهم دولة “عظمى”، فإذا شعبنا “الجاهل” “الفقير” “المريض” بسبب “تحضيرهم” لنا، يمرغ أنوفهم في التراب، ويجعلهم سخرية الساخرين، وهزء المستهزئين، وأضحوكة الضاحكين، قبل أن يرجعنا سفهاؤنا وأراذلنا وبادي الرأي منا مضحكة الفرنسيين ولغيرهم بسبب سياستهم الفاشلة، وأنظارهم العمياء، وآرائهم السقيمة، وأفكارهم الرديئة، وقصورهم وتقصيرهم.. وصاروا أشد حبا للفرنسيين الذين رغم كل شيء لا يحبونهم.. ولكنها الذلة والمسكنة إذا استولت على أناس.

وأما الجريمة الثانية فهي جريمة الإنجليز، أكثر المخلوقات مكرا ونفاقا، فهم لا يصبرون عليهما، ولا يقدرون على العيش من غيرهما.

ومن مكرهم الكبّار أنهم منحوا مالا يملكونه إلى من لا يستحقونه، وهو فلسطين الغالية، التي قدموها على طبق من ذهب إلى اليهود أشد الناس عداوة لله وللمؤمنين الصادقين، لا المنافقين من المسلمين الذين يقولون بأفواههم آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.

لقد وقع لإخواننا في فلسطين ما وقع لآبائنا وأجدادنا في الجزائر، وإذا كانوا لم يهجروا إلى خارج الجزائر إلا أنهم شردوا فيها، وذلك شر أنواع التشريد وأسوأها. وإننا لعلى يقين وإن طال البلاء سينتصر الحق، ويهزم الباطل، ويولّي أتباعه الأدبار، ذلك وعد الله – عز وجل- وهو وعد غير مكذوب، وإذا كان المنهزمون يرون بعيدا فإن عباد الرحمن من المجاهدين يرونه رأي العين، وذلك بعد أن يستجمع أنصار الحق أشراطه من الاستعداد النفسي إلى الإعداد المادي.

أما من سمّيتها “ذات المأساتين”، فهي شاعرة جزائرية، يجهلها أكثر الجزائريين، ولدت من أبوين جزائريين، في جسر المجامح على شاطئ البحر الميت بفلسطين، وذلك في سنة 1936، لأن أسرتها من الجزائريين الذين استوطنوا الشام، سواء من ذهب مع الأمير عبد القادر أو بعده، إنها الشاعرة “كلثوم عرابي”.

درست المرحلة الابتدائية في حينا، وتنقلت بعد ذلك في عدة مدارس حيث درست التعليمين المتوسط والثانوي. أما الدراسة الجامعية فقد تلقتها في جامعة القدس.

ولم تستطع الشاعرة وأسرتها احتمال الغطرسة العنصرية اليهودية، فانتقلت في سنة 1957 إلى لبنان، وأكملت نصف دينها، ورزقها الله ولدين.

وهي تنشط في الصحف والمجلات، تكتب الشعر لتنفس عما في صدرها من آلام، وتخفف عنها بما تبثه في قارئيها من آمال، لأن الأزمة مهما اشتدت ستنفرج، وإن الليل مهما طال سينجلي.

وقد انعكست وضعيتها على شعرها وأدبها، فنشرت ثلاثة دواوين شعرية هي “مشردة”، و”أجراس الصمت”، و”النابالم جعل قمح القدس مرّا”، وهي كما تقول تعيش النكبة بأقصى ما يكون العيش، ولكنها تأبى اليأس، لأن اليأس مذهب للبأس، وتعيش بالأمل المقرون بالعمل، فقد مكث العدو الفرنسي في بلدها الأول الجزائر، قرنا واثنتين وثلاثين سنة، وظن هذا العدو أن الجزائر صارت خالصة له، فأتاه الله من حيث لا يحتسب، وأخرج منها كما أخرج الشيطان من الجنة مذموما مدحورا، وهي تؤمن أن “الوعد والأمل يعيشان داخل النفوس”، وهذا ما عبرت عنه في قصيدة لها عنوانها: “لا يأس”. ورغم أن ديوانها الأول يحمل عنوان “مشردة” فهي تتشرف نحو الحق، والحب، والجمال. والحب كما تقول “يعيش في كل المناخات، وقد يعيش في خيام التشرد أقوى مما يعيش في القصور”.

ومن أشعارها الجميلة قصيدة “عودة” التي تقول فيها:

تقهقه، آلامنا في الخيام

وزمجرة الريح في خافقي،

تدق الفضاء طبول التشرد،

تعلن عن غدنا المشرق،

ستمشي الجوع تحيي اللقاء،

وتستحق نعش الأسر المارق

وسكينة الثأر بين يدينا

تشق السحاب وتمحو الشقي

وأشعل نارا لرمز انتصاري.

وأرفع رأسي نحو الفضاء،

وأهتف للشاطئ الأزرق.

هنيئا لشعب تحدى الشقاء

وثار على الظلم والسارق.

لا أعرف إن كانت شاعرتنا قد التحقت بعالمها الأسمى، أم ما تزال تكدح في هذه الحياة التي أشقاها الإنسان، وقد أمره ربه أن يعمرها، ولا ينسد فيها.

والمعلومات الواردة مأخوذة من كتاب “كتب وأدباء” للأستاذين وليم الخازن، ونبيه إليان.

مقالات ذات صلة