-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
رحلة مع ذي القرنين

ذو القرنيْن يؤسّس للوسطيّة

أبو جرة سلطاني
  • 647
  • 0
ذو القرنيْن يؤسّس للوسطيّة

الدّرس الأخير هو الرّوح الإيمانيّ الذي كان يسري في حركة ذي القرنيْن ويظهر في سلوكه بتلقائيّة لم يصطنعها لتحويل النّاس من التّواكل على ما بين أيديهم إلى التّوكّل على من وهبهم إيّاها وسخّرها لهم؛ فخلال المحطّات الثّلاث، التي قادته إليها رحلته الواسعة في الأرض، لم ينسب شيئا لنفسه ولا لقدرته وحصافة رأيه، إنما هو الله بما أتاحه له من عمق فهم وسداد رأي وبركة توفيق..

 فالله هو الذي مكّن له في الأرض.

 والله هو الذي آتاه من كلّ شيء سببًا.

 والله هو الذي وفّقه إلى سداد الرّأي، فكافأ من أحسن وردع من أساء.

 والله هو من هداه إلى إيثار ثروة التّعاون على ثروة الخراج.

ففي كلّ ما فعله كان مستبصرا بالحقّ مسدّدا بالرّأي مؤثرا للرّحمة بعد العدل.. وكلّ ذلك من رحمة الله: ((قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي)) (الكهف: 98)؛ ففي كلّ خطوة كان متجاوبا مع عطاءات الله (جل جلاله) آخذا بأسبابه. ولما فوّضه بإدارة شؤون الأقوام الذين كان يحطّ عندهم رحاله، عند كلّ محطّة، ساسهم بالعدل مع أنّ الله خيّره بين الشدّة والليْن وبين القوّة واليسر وبين العدْل والإحسان.

هكذا خيّره ربّه -جل جلاله-: إما أنْ تحكمهم بسلطان الغالب المتمكّن. وإما أن تحسن إليهم فتأخذهم باللّين والرّحمة والإحسان والتّجاوز وغضّ الطّرف عن المخطئين. فاختار وسطيّة هادئة وسنّ قانون الثّواب لمن أحسن والعقاب لمن أساء وأخضع الحُكم لما تترجّح به كفّتا ميزان العدل ليسوسهم بالقسْط لعلمه أنّ النّاس أمام الحقّ ثلاثة أصناف: محسن ومسيء ومقسط.

أمّا المحسن فيعان على إحسانه بالحسنى، ويشجّع على أعماله بالقول الحسن، ويُجازَى على إنجازاته بالثناء.

وأما المسيء فيعاقب على إساءته بالعدل، ويُضرب على يده بالحقّ ليرتدع عن التّواصل مع زمرة السّوء عندما يتعاون المجتمع كلّه على نهره ليكفّ عن ظلمه وطغيانه.

وأما المتفرّجون الذين يزعمون أنهم يعاملون النّاس بمنطق الحيّاد بانتظار نهاية حسْم المعارك بين الخيْر والشرّ والبناء والهدم والاستقامة والاعوجاج.. فتكفيهم صناعة قدوة وتعاون على بّر لمنْع زحْف المنكر وتكاثر فلول الإثم والعدوان.

بهذا الفهم القويم لسنن الحياة أسّس ذو القرنين لمنهج الوسطيّة وصنع لهؤلاء الأقوام قدوة عاليّة من نفسه تصدّي بها للظّالمين وكافأ بها المحسنين وردّ عليهم خراجهم بلطف وأعلن أنّ ما أعطاه الله له من تمكين في الأرض وتسخير للأسباب ورشاد وتوفيق خيرٌ ممّا عندهم من خراج. وأنّ التّعاون على إقامة سدود الخير في وجه الشرّ أنفع للبشريّة من كنوز الأرض، وتكثير سواد أهل الصّلاح وبُناه الحصون لصدّ هجمات حاملي معاول الهدم والمغيرين على أهل الصّلاح والخير والعدل والجمال أفضل من خراج الأرض كلّها وأنفع للبشريّة من الذّهب والفضّة: ((قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)) (الكهف: 95).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!