-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رئيسة جامعة هارفارد.. تستقيل!

رئيسة جامعة هارفارد.. تستقيل!

يرجع تاريخ إنشاء جامعة هارفارد إلى سنة 1636م. وقد تداول على رئاستها منذ ذلك التاريخ إلى اليوم 30 رئيسا، أي أن معدل العهدات المتوالية لهؤلاء الرؤساء تعادل تقريبا 13 سنة لكل منهم. لكننا نجد في هذه المجموعة 16 رئيسا تجاوزت عهداتهم 10 سنوات.

ومن بين هؤلاء من ظل على رأس الجامعة مدة 25 سنة، ومنهم من تجاوز 32 سنة، بل بلغت عهدة أحدهم 40 سنة! وفي المقابل حدث قبل أيام ما لم يكن في الحسبان إذ اقتصرت عهدة رئيسة جامعة هارفارد كلودين غاي Claudine Gay على 6 أشهر ويوم واحد. ذلك أنها نُصّبت في الفاتح من جويلية الماضي واستقالت يوم الثلاثاء 2 جانفي 2024 بعد أن تم انتخابها يوم 15 ديسمبر 2022 لتولي رئاسة الجامعة بدءا من منتصف سنة 2023. فما الذي دفعها إلى الاستقالة؟

مسارٌ علمي يسوده التميّز
من بين ما يميّز هذه الرئيسة أنها كانت أول امرأة تشرف على هذه الجامعة، كما أنها أول من ترأّس الجامعة من الزنوج. وقد أحرزت على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد ذاتها عام 1998، بعد أن درست الاقتصاد في جامعة ستانفورد ذائعة الصيت، وحاضرت فيها خلال الفترة 2000-2006. وما يدل على المكانة العلمية الراقية للأستاذة غاي أنها فازت بجائزة أفضل أطروحة في العلوم السياسية. وهي تعمل بجامعة هارفارد منذ 2006. وهكذا عُيِّنت في عام 2007 أستاذة للدراسات الإفريقية والأمريكية- الإفريقية. كما أنها عضوٌ في أكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم.
وخلال تنصيبها على رأس جامعة هارفارد قالت كلودين غاي: “هناك حاجة ملحّة في جامعة هارفارد للتعامل مع العالم وتقديم تفكير جريء وشجاع ورائد من أجل التصدي لأكبر التحديات التي نواجهها”. ولم تكن تعلم آنذاك أنه سيتم الإطاحة بها بعد بضعة أشهر لأسباب دنيئة. ويُعرف عن الأستاذة غاي أيضًا أنها شديدة التمسّك بالحرية الأكاديمية، واصفة إياها بأنها “محكّ كل ما نحاول تحقيقه”.

في يوم 2 جانفي كتبت النائبة إليز ستيفانيك مبتهجةً بعد استقالة الأستاذة غاي (وأيضا استقالة رئيسة جامعة بنسلفينيا): “إن ردود كلودين غاي المعيبة أخلاقياً على أسئلتي قد سُجّلت في التاريخ باعتبارها الشهادة الأكثر مشاهدة في تاريخ كونغرس الولايات المتحدة. لقد كانت ردودها مثيرة للشفقة وخالية من أي اعتبار أخلاقي”! هكذا تسير شؤون أرقى جامعة في الولايات المتحدة والعالم عندما يسقط قناع الميز العنصري وتصطدم ديمقراطيتهم بالشأن الفلسطيني.

ومن المعلوم أنه خلال الحرب على غزة كانت جامعة هارفارد مسرح مظاهرات كثيرة داخل حرمها بين مؤيد لهذه الحرب ومندِّد بها. وفي رسالة وجهتها الأستاذة غاي عند استقالتها يوم 2 جانفي الجاري قالت للمنتسبين لجامعة هارفارد: “لم أتخذ هذا القرار بسهولة. إنني أتطلع إلى العمل مع الكثير منكم لتعزيز الالتزام بالتميز الأكاديمي الذي كان المحفّز لهذه الجامعة العظيمة على مرّ القرون”، مضيفةً “لقد أصبح من الواضح أنه من مصلحة جامعة هارفارد أن أستقيل حتى تتمكّن مؤسّستُنا من اجتياز هذه الفترة من التحدي الاستثنائي مع التركيز على المؤسسة بدلا من التركيز على فرد من الأفراد”.
أما أعضاء الهيئة الإدارية العليا لجامعة هارفارد، فامتدحوا الرئيسة غاي وأشادوا بالتزامها تجاه المؤسسة. وقد جاء في بيانهم: “قبل كل شيء، نشكر الرئيسة غاي على التزامها العميق والثابت بجامعة هارفارد والسعي إلى تحقيق التميز الأكاديمي.. إنها شديدة الإيمان بمهمة جامعة هارفارد في التعليم والبحث، لقد كرست حياتها المهنية لمؤسسة عملت بلا كلل على تطوير مبادئها وأولوياتها، ونحن ممتنون للمساهمات غير العادية التي قدمتها، وستستمر في تقديمها كقائدة، وأستاذة، وباحثة، ومرشدة، ومُلْهمة”. وكذلك صرح الرئيس بالنيابة الذي خلفها. كما وقفت إلى جانبها الأسرة التربوية وفئات كثيرة من طلبة الجامعة.
نشير إلى كل ذلك لتوضيح مكانة وجدّية هذه الأستاذة. لكن ذلك لم يمنع بعضهم من كتابة مقالات تشهيرية يوم استقالتها وقبله تحمل عناوين مثيرة، تقول: “كلودين غاي تستقيل من منصبها كرئيسة لجامعة هارفارد بعد مزاعم بأنها قامت بسرقات العلمية”… بينما الحقيقة أمرٌ آخر.

استقالة تحت الضغط
وتأتي استقالة الأستاذة غاي بعد شهر تقريبا من طرح النائبة المنتسبة للحزب الجمهوري إليز ستيفانيك Stefanik سؤال على غاي ورئيستي جامعتين من أبرز الجامعات الأمريكية، وهما رئيسة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) ورئيسة جامعة بنسلفانيا. كان ذلك خلال جلسة استماع بالكونغرس حول “مكافحة معاداة السامية في الحرم الجامعي”، بعد أن اعتبرت ستيفانيك أن دعوات بعض الطلبة إلى “الانتفاضة” بأنها تحريضٌ على “الإبادة الجماعية لليهود في إسرائيل وفي أنحاء العالم”.
وهذا السؤال يقول: “هل الدعوات للإبادة الجماعية ضد اليهود في أعقاب الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة تنتهك قواعد السلوك في مؤسساتكم”؟ وكان جواب الأستاذة غاي: “قد يكون الأمر كذلك، وهذا بحسب السياق”. هذه الإجابة الشكلية التي تحمل أكثر من معنى اعتبرها العديد من النقاد، لاسيما في صفوف اللوبيات الصهيونية “تصريحات ضد السامية”. ثم سألت النائبة إليز ستيفانيك الأستاذة غاي عما إذا كانت جامعة هارفارد ستتَّخذ إجراءات تأديبية ضد الطلبة الذين يرددون عبارة “من النهر إلى البحر” أو “الانتفاضة”؟ فردت الأستاذة غاي أنها تعتبر هذا الخطاب “فظيعا” و”متعارضا مع قيم جامعة هارفارد”، إلا أن الجامعة لا تزال متمسكة بـ”الالتزام بحرية التعبير”.
ومع أنَّ الأستاذة غاي اعتذرت لاحقًا عن تعليقاتها التي ساء تفسيرُها، إلا أنّ الضغط عليها من تلك اللوبيات لم يتوقف؛ إذ طالب أكثر من 70 نائبا، بالإضافة إلى جمع من قدماء خريجي جامعة هارفارد ومانحين وممولين مشهورين، باستقالة كلودين غاي نتيجة سلوكها وتصريحاتها إزاء “مكافحة معاداة السامية في الحرم الجامعي”. حدث ذلك يوم 5 ديسمبر 2023، ولم يمرّ أسبوع حتى ظهرت حكاية “السرقة العلمية” وتوالت مطالبات اليمين باستقالة الأستاذة غاي بعد الاستماع إليها في الكونغرس. وفي هذا الخضم، نشر الملياردير بيل أكمان Bill Ackman، المعروف بدعمه المطلق لإسرائيل، ادّعاءات على وسائل التواصل الاجتماعي تزعم أن كلودين غاي قد سرقت بعضا من أعماله الأكاديمية!
ونتيجة لذلك، كلَّفت جامعة هارفارد هيئة خبراء بإجراء مراجعة مستقلة لكتابات غاي في أعقاب الاتهامات، فخلصت هذه الهيئة يوم 15 ديسمبر إلى أنه “لا توجد انتهاكاتٌ لمعايير هارفارد لسوء السلوك في مجال البحث العلمي”. وكان واضحا أن أعضاء الحزب الجمهوري يستهدفون من خلال هذه الهجمة أيضا مؤسسات “النخبة” الأمريكية التي يرون أنها “ابتليت بالتحوّل السياسي نحو اليسار”. بمعنى أن هناك دوافع سياسية واضحة وراء هجوم اليمين الأمريكي على الجامعات الأكثر شهرة، مثل هارفارد، جعلت تلك الجامعات تهتزّ بسبب مزاعم مفادها أنها “مؤسساتٌ ملوَّثة بالمذاهب السياسية اليسارية، وأنها أصبحت حاضنة للإيديولوجيات المتطرفة”.
ونظرا للضغط المترتب عن الاتهامات بالسرقة العلمية والتأويلات المغرضة لتصريحاتها خلال جلسة الاستماع في الكونغرس حول “مكافحة معاداة السامية في الجامعات”، اختارت الرئيسة غاي ترك منصبها. وفي يوم 2 جانفي كتبت النائبة إليز ستيفانيك مبتهجةً بعد استقالة الأستاذة غاي (وأيضا استقالة رئيسة جامعة بنسلفينيا): “إن ردود كلودين غاي المعيبة أخلاقياً على أسئلتي قد سُجّلت في التاريخ باعتبارها الشهادة الأكثر مشاهدة في تاريخ كونغرس الولايات المتحدة. لقد كانت ردودها مثيرة للشفقة وخالية من أي اعتبار أخلاقي”!
هكذا تسير شؤون أرقى جامعة في الولايات المتحدة والعالم عندما يسقط قناع الميز العنصري وتصطدم ديمقراطيتهم بالشأن الفلسطيني.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!