-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رجال في زمن عزّ فيه الرجال

سلطان بركاني
  • 2780
  • 0
رجال في زمن عزّ فيه الرجال

لم ولن يخلو زماننا هذا من رجال يعرفون للرّجولة قدرها، في مظاهرهم وأحوالهم، وفي قيامهم بواجباتهم الدينية والدنيوية.. مهما تنكّب المتنكّبون وكثر المتساقطون، فإنّ الواحد من هؤلاء الرّجال لا يقبل لنفسه أن يكون ذكرا في مسلاخ أنثى بمظهره وطريقة كلامه ومشيته. لا يُعجز الواحدَ منهم فراشٌ دافئ أو لهو شاغل عن القيام للصّلاة في وقتها، ولا يرضى أحدهم لنفسه أن يظلّ عالة على والديه في مصروفه، بل يبادر بالبحث عن عمل يحفظ به ماء وجهه، فلا تراه إلا متّسخ الثياب عرِق الجبين. رجل في مواقفه لا يخضع مع الخاضعين ولا يتمايل مع المتمايلين. لا تُميله كلمة من عابثة أو نظرة من لعوب، ولا ينزل برجولته إلى حضيض قتل الوقت مع اللاهيات العابثات.

أعرف شابا يعمل موظفا في أحد مراكز البريد، مثال حقيقي للموظف الذي يتقي الله في عمله؛ لا يغادر الشباك الذي يعمل فيه إلا لأمر ضروري، وإن حصل أن تعطلت شاشة عرض الأرقام، فإنه يسارع إلى إصلاحها ولا يهتبلها فرصة للراحة. يقابل الناس بوجه حسن ومعاملة طيبة، ويصغي لكبار السنّ ولا يضجر من أسئلتهم. كنتُ مرّة شاهدا على موقف بدر من هذا الشابّ يدل على رجولته ومعدنه النفيس؛ حين دخلت إحداهنّ، تكاد تخرق الأرض وتصمّ الآذان بكعبها العالي! وهي تلوح بمفاتيح سيارتها. أخذت من الآلة تذكرة خاصة بأصحاب الأعذار، غير عابئة بالعشرات ممن ينتظرون قبلها وبينهم شيوخ وعجائز، وما هي إلا لحظات حتى توجّهت إلى شبّاك ذلك الشاب، ووضعت أمامه التذكرة مع الصك والبطاقة. أخذ الشاب التذكرة، وحين وجدها خاصة بأصحاب الأعذار رماها في وجهها وقال لها: خذي تذكرة عادية وانتظري دورك.. فما كان منها إلا أن أخذت وثائقها وخرجت تجر أذيال الخيبة.

هذا الصّنف من الشّباب موجود في واقعنا، ولله الحمد، لكنّه مع كلّ أسف أصبح قليلا نادرا، في مقابل الأعداد الهائلة من شبابنا الذين تخلّوا عن كثير من أمارات الرّجولة، حتّى غدا لا حديث للواحد منهم إلا عن الحبّ والعواطف والمشاعر والأحاسيس المرهفة، في زمن تواجه فيه الأمّة تكالبا لا قبل لها به! ففي الوقت الذي يسعى فيه الرّجال لتأمين لقمة العيش في الأعمال الشاقّة، تجد شباب المشاعر لا شغل لهم غير تبادل روابط الأغاني التي تُربت على الأحاسيس لتزيدها رقة إلى رقتها، ومشاركة مقاطع تزيد عبوديتهم للأجساد والشّهوات! والبحث عن وصفات لتبييض البشرة، حتّى أصبح أمرا عاديا أن ترى بعض الشّباب يرتادون محلات مستحضرات التّجميل، لاقتناء “الماكياج” ومراهم تلميع البشرة! وحتّى لو وجدت بعض هؤلاء الشّباب عاملين، فهم غالبا في الإدارات والمكاتب، والعجيب أنّك لا تكاد تجد فرقا بينهم وبين “زميلاتهم”؛ فمن كثرة خلطتهم للنّساء تعجب لتصرّفاتهم المائلة إلى الميوعة.. الواحد منهم لو وقف أمامه رجل يطلب خدمة زمجر في وجهه وعامله بكلّ تكبّر، لكنّه لو وقفت أمامه إحداهنّ، عاملها بكلّ رقة ولطف وسعى في خدمتها بما أمكنه!

هذه الحال المزرية التي آل إليها كثير من شباب الأمّة، هي حصاد متوقّع لمشروع ضخم أنفقت عليه الأموال الطائلة وسخّرت له وسائل الإعلام بمختلف أوزانها لتخنيث شباب الأمّة وسلبهم رجولتهم، في المنعطف الخطير الذي تمرّ به الأمّة.. برامج الألحان، المسابقات الغنائية، الأفلام والمسلسلات، الحصص الاجتماعية، لا تكاد تخلو واحدة منها من مظاهر وإشارات واضحة تشجع على إلغاء الفوارق بين الذّكر والأنثى، في اللّباس والكلام والاهتمامات، وحتّى مواقع التواصل الاجتماعي غزتها ثقافة التخنث وأصبحت هي السّائدة في هذه المواقع مع كلّ أسف.

الواقع محزن فعلا، وهو يحتّم على المصلحين أن يكثّفوا جهودهم لإنقاذ شباب الأمّة، ويرفعوا التحدّي في وجه طوفان الفساد والانحلال.. الواقع مخيف لكنّ بشائر الخير لا تزال تتراءى من خلف الظّلام الحالك. في الأمّة شباب استعصوا -بفضل الله- على طوفان الفساد، وهم كالنّحل في نشاطهم على مواقع التواصل وفي الواقع، وقتهم بين العمل والمسجد وأعمال الخير، لا وقت لديهم لسفاسف المواقع، لا تلهيهم أغنية ولا تغريهم غانية، لا يتعلّلون بفساد الواقع وكثرة الفتن، لأنّهم يعلمون أنّ السّلعة كلّما كانت أجود كان الثّمن أغلى، والسلعة التي يطلبونها هي سلعة الرّحمن الجنّة، حاديهم قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (الرّعد: 22- 24).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!