-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رمضان هو من يقوّم اعوجاج النّفس

خير الدين هني
  • 214
  • 0
رمضان هو من يقوّم اعوجاج النّفس

شهر رمضان بأبعاده المثالية، وآدابه وأخلاقه وتعاليمه السامية التي يحملها في ذاته، كجواهر نفيسة ورمزية، هي من يقوّم اعوجاج النفس الإنسانية المركبة تركيبا متناقضا لغاية مقصودة، اقتضتها إرادة علوية عليمة قديرة حكيمة مُتَفضِّلة، والمشيئة الإلهية وحدها من تعلم طبيعة النفس الإنسانية، وتركيبتها المعقدة بازدواجية النزوع نحو الخير والجنوح نحو الشر، ولذلك يعلم سبحانه طرق علاج أمراض هذه النفس واعوجاجها وبعدها عن الاستقامة، لأنه تعالى هو من خلقها وسواها وركّبها وألهمها فجورها وتقواها. قال سبحانه: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد)) (ق: 16).

يخبرنا الحق -سبحانه- في هذه الآية، بأنه -تعالى- من خلق هذا الإنسان، ويعلم ما تحدّث به خلجات نفسه وضمائر قلبه، إن كان خيرا أو شرا، فلا يخفى عليه شيء من مكنونات نفس العبد وطبيعة نزوعها أو جنوحها، ويخبرنا -جل ثناؤه- بأنه أقرب إلى نفس هذا الإنسان من حبل الوريد، وهو حبل العاتق أو العنق، والوريد عرق بين الحلقوم والعلباوين، والمراد بالقرب ليس هو القرب المكاني كما يحب أن يفهمه العامة، وإنما هو القرب بالعلم، لأن العلم بجوهر الشيء يجعله قريبا من العالم البصير كما لو أنه يلامس مكان وجوده وحركته ونشاطه، والله يزيد عن ذلك بعلم ما في القلوب والنفوس، لأن علمه -سبحانه- يخترق الحجب والحواجز المادية والمكانية والزمانية.

فالحق -سبحانه- ذات منزّهة عن التجسيد والحلول والمماثلة والمشابهة والندية، فهو ليس ذاتا مجسّمة كما صورها اليهود على هيئة إنسان وقور جالس على عرشه في قبة السماء، يستجيب لضراعة العباد بالطرق الميكانيكية التي تعوّد عليها الناس في ممارساتهم، ويتنقل من مكان إلى آخر في أرجاء الفضاء العميق والسماوات المتطابقة، حين يريد الحركة من أجل الفعل والتفقّد وتدبير شؤن الكون والحياة الإنسانية، على نحو ما يفعل الإنسان في تدبير أمور حياته، وحين يصيبه التعب والإعياء يستريح، كما فعل حين خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فلما انتهى منها يوم الجمعة استراح يوم السبت، لذلك جعلوا من هذا اليوم راحة من أتعابهم الأسبوعية. فردّ عليهم سبحانه في قوله: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ)) (ق: 18)، أي: لم يصبه -تعالى- التعب من هذا الخلق ولم يُصبه الكلال والإعياء والإرهاق، لأنه -تعالى- ليس على هيئة مخلوقاته، وليس كمثله شيء كما وصف نفسه في الآية الحادية عشرة من سورة الشورى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير)).

بمعنى أن الله -تعالى- تنتفي مشابهته بكل الموجودات والمخلوقات، لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته، ولا في أفعاله وعلمه وقدرته وحكمته وعدله، فهو متوحِّد بالتنزيه ومتفرِّد بالكمال من كل الوجوه، وعلمه -تعالى- نافذ وخارق للعادة، وليس كعلم البشر الذي لا يتجاوز الظواهر الحسية والمدركة بالمعاينة والمشاهدة، أما بواطن الأشياء وخفاياها فلا ينفذ إليها علمه لعجزه وقلة حيلته، ولما كانت النفس الإنسانية جانحة إلى الهوى بطبعها وغرائزها، فرض الله -تعالى- عليها العبادات بشروطها وكيفياتها، لأن أداءها بتلك الضوابط هو من يعالج أمراضها، ووساوسها وجنوحها نحو التفلّت من القيود الدينية والأخلاقية والأدبية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!