-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رُبّان بحر الرمال

رُبّان بحر الرمال

من يزور الجنوب سيكتشف أن عالما آخرا مليئا بالجمال والكنوز الأسرار مازال مجهولا، وما عُلِم منه ما زال مهمَّشا.

إنّ بلادنا تنام على ثروات كبرى تجعل القائمين عليها أمام مسؤوليات جِسام. وقد انتابني شعور لا أجد الكلمات المناسبة لوصفه. إنّه خليط من الحب والحسرة، ومزيج من الألم والأمل، و مُحصِّلة من الإعجاب والحنين، والشفقة والغضب.

زرت هذه الأيام منطقة سوف، وخرجت كعادتي إلى ريفها، هذه القرى الأشبه بالجُزر الخضراء في بحر من الرمال الذهبية المتلاطمة أمواج كثبانه على مرمى البصر.

كنت أعرف منذ أيام الصِّبى أنّ أهلنا في هذه المنطقة لا يتّكلون بعد الله إلاّ على سواعدهم، وقرّروا أن ينتزعوا عيشهم في خوض عُباب هذا البحر فطوّعوه لإرادتهم، بداية من تجربة زراعة النخيل بحفر “الغيطان”، إلى تحديث وسائل الإنتاج باستخراج المياه الجوفية وتفجير خيرات الأرض بمختلف المنتجات الزراعية، فأصبح صنيعهم ملء السمع والبصر.

إنّ رُبان الرمال في هذه البقعة العزيزة من الوطن يعملون منذ قرون في صمت وصبر قَلّ  نظيرهما. ولمّا كان كسبُهم صعبا ومتعِبا، كان أملهم وصبرهم زادهم، وهو الخُلُق الذي ورثوه و أورثوه لذريّاتهم، وانعكس هذا الطبع في حياتهم كلها، وأثبتوا لإخوانهم في مختلف المناطق من الوطن عمليا أنّ هِمّة المؤمن لو تعلقت بما وراء العرش لنالته.

انغرس هذا الخُلُق فيهم، فَعَلَت هِمّتهم، وكبرت آمالهم، وكثرت خيراتهم، وأُكرِم ضيفهم، وتكافل مجتمعهم، وشقُّوا في هذا المسار الصعب سبيل تربية النشء على مكارم الأخلاق.

إنّ هذا النموذج الحي مازال حبيس المنطقة، وهو مُهدَّد بالتشويه والمسخ، بل والانحراف لا قدّر الله لو يتم التركيز فقط على اليسر المادي وتبني مبادئ دخيلة ورخيصة قصد توسيع نشاطهم وزيادة دخلهم.

ومن ذلك فكرة الكسب الأكثر بالجهد الأقل باعتبار ذلك دليلا على الفطنة والذكاء، وهو نكرانٌ مخجل وخيانة صريحة للمبادئ التي خاض بها الآباء الأوائل عُباب بحر الرمال لإخراج كنوزه. إنّ التميُدن ومسايرة العصر يأخذ مفهوما تافها في المجتمع اليوم لأنه يرتبط بتوفير كل وسائل العيش والرفاه بعيدا عن قيم الإيمان والجد والتكافل والصبر والإيثار، وهذا المفهوم غريب عن ثقافة المنطقة وأصول ومبادئ تنظيمها الإجتماعي.

وأنا أهيب بربان بحر الرمال المتمسكين بأصولهم أن يتداركوا منطقتنا الحبيبة الدافئة بإعادتها إلى مبادئ إعمارها لهذه المنطقة كما فعل ذلك علماؤها ومجاهدوها والمصلحون فيها خاصة وهي منطقة عُرِفت بصدق جهادها، وأصالة علمائها، وكرم أهلها.

إنّها مثال المجتمع المحافظ والمتفتح على كل نافع، ومثال المجتمع الصابر الحالم العامل الجاد من أجل إعمار الأرض ورفاهة الإنسان وصون كرامته.

إنّ مستقبل هذه المنطقة واعدٌ فعلا، فلا قساوةُ الطبيعة ولا أمواجُ الرمال، ولا التهميشُ الطويل قد وقف حاجزا في طريق انبعاثها. إمكاناتُ بلدنا والحمد لله كافية وزيادة لتجعل من منطقة سوف أكثر جذبا للاستثمار من مناطق أخرى معروفة في عالمنا العربي كانت إلى وقت قريب حبيسة الرّعي والماء والكلإ، وأصبحت اليوم مضرب المثل في اليُسر والاستثمار.

غير أنّني أتمنى أن يكون مستقبل منطقتنا تحت رعاية مبادئ ربان بحر الرمال، هذه المبادئ التي تقف ضابطا للسلوك العامّ، وحصنا لتماسك المجتمع، وسدّا منيعا أمام العاملين اليوم بمبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”، حتى لا يصبح التطور في المنطقة قرين الانحلال والانحراف، وربما الزيغ والضلال لا قدر الله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!