-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

زلّة عالم.. أم محنة أمّة؟!

سلطان بركاني
  • 1479
  • 0
زلّة عالم.. أم محنة أمّة؟!

أثارت الكلمات التي نطق بها الداعية المغربي أحمد الريسوني، في برنامج تلفزيوني، قبل أكثر من أسبوعين، موجة استهجان واسعة قي الأوساط الخاصّة والعامّة، لغرابتها وغرابة صدورها من رجل كان قبل زلّته الأخيرة يعدّ من علماء المسلمين الكبار، كيف لا وهو رئيس الاتّحاد العالمي لعلماء المسلمين، والعالم الأصوليّ الذي يرجع إليه في القضايا والمسائل الأصوليّة، وقد حمد له العلماء والعامّة قبل ذلك إنكاره تطبيع المغرب مع الكيان الصّهيونيّ المحتلّ، لكن يبدو أنّ ضغوطا مورست عليه، جعلته ينسى علمه، وينطق بكلمات قلّ أن ينطق بها سياسي يقدّر المآلات، كيف بعالم يفترض فيه أن يحمل همّ لمّ شمل الأمّة، ويسعى جاهدا في رأب الصّدع بين دول المسلمين.

زلّة الرّيسوني، فيما يظهر، كانت بسبب مساومة دخل فيها مع الجهات المسؤولة، حينما قال كلمة لم ترضها، واستجلبت له سخطها، فسوّلت له نفسه أن يبحث عن كلمة أخرى ترضيها، ولعلّه لم يقدّر مآل ما قال ووقْعه، حتّى حاق به سخط الأمّة، فاضطرّ إلى أن يحاول توجيه كلمته، ولعلّه يكون قد سقط من عين من طلب رضاه، قبل أن يسقط من عين الأمّة، والأنكى من ذلك أنّه فرّ من خصومة السّلطان، وربّما وقع في خصومة الخالق سبحانه، بعد أن تنكّب أمر الله بالإصلاح بين المسلمين وسعى في ضدّه وقال ما كان كفيلا لو سُمع له بإضرام فتنة عظيمة بين شعبين مسلمين متجاورين.

مع كلّ هذا، فالحقّ يقال إنّ زلّة الريسوني، ليست زلّة عالم واحد محسوب على بلد من بلدان المسلمين، إنّما هي محنة عظيمة تعيشها الأمّة في عدد كبير من علمائها الذين تصدّر أسماؤهم بأفخم الألقاب، ورزية تدمي القلوب في هيئات تحمل أسماء براقة، لكنّها تضمّ بين أعضائها من يختلون الدّنيا بالدّين ويطلبون رضا المخلوقين بسخط الخالق. بل إنّ منهم من يركن إلى الباطل ويبرّره وينافح عنه، ليس خوفا من الباطل فحسب، ولكن حرصا على المنصب ولهثا خلف المال، وهؤلاء ينسيهم الشّيطان أنّ “أعظم المال تحريماً، ذلك الذي يأخذه العالِم ليسكت عند سماع الباطل، وهو أعظم من الربا، لأن الربا ظلم خاص والسكوت ظلم عام ((سماعون للكذب أكالون للسحت))” (الطريفي)، هذا في سكوت العالم عند سماع الباطل، كيف لو انحدر إلى درك قول الباطل وتبنّيه؟!

لا يكاد قطر من أقطار الأمّة يخلو من أمثال هؤلاء العلماء الذين يعلمون الحقّ ثمّ يخالفونه خوفا أو طمعا، تزلفا للجهات الحاكمة أو طلبا للحظوة لدى العامّة الذين يريد أكثرهم دينا لا يحتاجون معه إلى مجاهدة أنفسهم وفتاوى لا تخالف مصالحهم وأهواءهم.. والخرق في اتّساع مستمرّ! خاصّة مع زيادة حملات الاعتقال والترهيب المسلّطة على القلّة القليلة من العلماء والدّعاة الصّادعين بالحقّ، ومع استمرار تغييب مئات بل آلاف العلماء والدّعاة في غياهب السّجون المتكاثرة في ربوع الأمّة المسلمة!

الأمّة المسلمة وهي تعيش سنوات عصيبة التبس فيها الحقّ الباطل، وصارت مقدّساتها نهبا مستباحا، وتسلطت فيها العلمانية الحاقدة على الإعلام ومنابر التأثير وعاثت فسادا في عقول الجيل الجديد، في أمسّ الحاجة إلى علماء ودعاة يرابطون على ثغور الدّين، ويثبتون على كلمة الحقّ، ويقدّمون التضحيات لأجل أن يبقى الدّين ظاهرا -وهو باق بوعد الله- ولأجل أن تبقى كلمة الحقّ خفاقة وسط ركام الباطل المتنامي.

السّنوات التي نعيشها فارقة، علا فيها صوت الباطل علوا منكرا، وأصبح للجهلة كلمة عالية ومسموعة، وغدت الكلمة مسؤولية عظيمة، وأصبح سكوت العالِم عن الحق، أخطر على الأمة من نطق الجاهل بالباطل.. العالم يفترض أن يكون أكثر النّاس يقينا بأنّ الأعمار والأرزاق بيد الله وحده، وأنّ أيّ سلطان مهما كان سلطانه ومهما بلغ بغيه وعدوانه لن يملك تقديم أجل عبد من عباد الله يوما ولا ساعة ولا لحظة واحدة، ولن يملك إنقاص رزق عبد من العباد دينارا ولا درهما.

العلماء أحرى وأولى النّاس بإصلاح عقيدتهم بالله وتوثيق صلتهم به جلّ في علاه، ليكون لهم وليا وحافظا ونصيرا، وكيف لا يكونون كذلك وهم يقرؤون قول الله تعالى: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ (النّساء: 139)، ويعلّمون النّاس أنّ من اعتزّ بغير الله ذلّ.. والعالم لا يخفى عليه أنّ ضعف صاحب الحقّ عن مواجهة الباطل إنّما هو لخلل في حامل الحقّ، وليس في الحقّ، إنّما قد يجبن عن مواجهة الباطل بسبب ذنب يقارفه، والذّنوب كما يقول العارفون تورث التردّد، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾.. والأهمّ من هذا أن يمحّص العالم نيته حين يجد من نفسه الجبن أمام الباطل والسّكوت عنه، لأنّ النية المدخولة من أعظم أسباب الضّعف والخور، والعالم المخلص لا يتطرّق إلى قلبه الخور من صاحب الباطل، ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾، ومن يستقرئ الواقع يدرك أنّ الشّهرة التي تصطنعها وسائل الإعلام في زماننا هذا أفسدت نيات كثير من العلماء والدّعاة، وشابتها بحبّ الظّهور والمدح والإطراء، وهذه البلية أدّت إلى قلّة النّفع والبركة في كلام كثير ممّن يتصدّرون للتوجيه والتّنظير، يقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: “أوحى الله -عز وجل- إلى بعض الأنبياء: قل للذين يتفقهون لغير الدين، ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، يلبسون للناس مسوك الكباش وقلوبهم قلوب الذئاب، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمَرّ من الصبر؛ إياي يخادعون وبي يستهزئون. لأفتحن لهم فتنة تذر الحليم حيران” (أخرجه ابن عبد البر).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!