-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
من السُّنن الإلهية (2):

سُنّة التداول

ناصر حمدادوش
  • 1248
  • 1
سُنّة التداول
أرشيف

تحدّثنا في المقال السّابق عن: سُنّة التدافع، وهي من السُّنن الثابتة والمطّردة في الاجتماع البشري، التي أراد الله تعالى أن يبيّنها لنا ويهديَنا إليها، كما قال سبحانه: “يريد الله ليبيّن لكم ويهديَكم سُنن الذين من قبلكم..” (النساء: 26)، وهو ما يعني أنّ هذه السُننَ قارّةٌ وغيرُ مرتحلةٍ مع رحيل المجتمعات والحضارات، وهي ممتدّةٌ في الزّمان والمكان والإنسان ومجرّدةٌ عنهم، وهي – وفق التصوّر الإسلامي – غايةٌ في الوضوح والدقّة، لأنّها تستند إلى مصدرية الوحي في المعرفة، فالمسلم لا يسلّم لله تعالى في الخلْق فقط، بل يخضع له – كذلك – في الأمر: “ألاَ يعلم مَن خلق وهو اللّطيف الخبير”. (الملك: 14)، فقال سبحانه: “ألاَ له الخلق والأمر”. (الأعراف:54)، وهو ما يمايزنا عن حقيقة الأزمة المعرفية التي يعاني منها علم الاجتماع في الوسط العَلماني والغربي، لأنّ الوعاء الزّمني لهذه السُّنن قد تتجاوز عمر الفرد، وقدراتِه العقلية المحدودة.

ومن أخصّ خصائص هذه السُّنن الاجتماعية أنها تأخذ بُعدًا كلّيًّا ومَنْزَعاً جماعيًّا في الاتجاه والجزاء، وهو ما يرتّب المسؤولية على الجميع في تحقيق المصالح ودفع المفاسد، وأنّ الاستقالة من واجب الإصلاح الجماعي والاكتفاء بمجرد الصّلاح الفردي لا يعفي الصّالحين من دفع ضريبة المفسدين، وأنّ الخطأ الفردي قد يدفع ثمنه المجتمع، ومن دون استثناء، كما قال تعالى: “واتقوا فتنةً لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة..” (الأنفال: 25)، وهو ما يعني التأكيد على توزيع عقوبة الفتنة على الكلّ، وعدم اقتصارها على أسبابها الفردية المباشرة، للاشتراك في المسؤولية وآثارها والتكليف بها، فالمجتمع يتحمّل المسؤولية الجماعية في مراقبة وتقويم الفعل الاجتماعي للفرد عند الانحراف، ولا يُعتذر عن ذلك بذريعة الحقوق والحرّيات الفردية، لأنّه لا توجد حقوقٌ مطلقة، ولا حرّيةٌ مطلقة.

وعند استقرائنا لحجم الحمولة المعرفية وسَعَة التعبير القرآني المكثّف عن هذه السُّنن نجد أنّ الغاية هي تحفيزُ العقل المسلم لاستخراجها من طور الفكر إلى طور الفعل، ومن حالة السّكون إلى حالة الحركة.

ونتحدّث في هذا المقال عن سُنّةٍ أخرى من السُّنن الإلهية الاجتماعية والتاريخية، وهي: سُنّة التداول والاستبدال، والتي تعني التعاقب والتناوب الحضاري، وهي التي تفضح وتعرّي مقولة “نهاية التاريخ” للمفكر الأمريكي “فوكوياما” الياباني الأصل، والتي تؤكّد على صعود الحضارات وسقوطها، وعلى ميلاد الأمم ووفاتها، وعلى نشأة الدّول وزوالها، وعلى تداول القيادة وانتقالها.

قال تعالى عن هذه السُّنّة: “وتلك الأيام نداولها بين النّاس..” (آل عمران: 140)، ولا يزال التاريخ مشحوناً بهذه السُّنّة وفق استحقاقات التداول وشروطه، في إطارِ نسَقٍ سُنَنيٍّ ربّانيٍّ ثابت، يقتضيه العدل الإلهي في الخضوع لقانون السّببية (الأخذ بالأسباب واليقين في المسبّبات)، والتي لا تجامل المؤمن لإيمانه، ولا تعادي الكافر لكفره، والتي جاءت لتقرّر هذا القانون العام، الذي يحكم عوامل النّصر والهزيمة، بأسبابٍ مجرّدةٍ وحاكمةٍ على الجميع (المؤمنين والمشركين)، في سياق الحديث عن “معركة أُحُد”، فقال تعالى وهو يخاطب المؤمنين: “إن يمسسكم قرْحٌ (يعني: هزيمة أُحُد) فقد مسَّ القومَ قرْحٌ مثله (أي هزيمة المشركين في بدر)، وتلك الأيام نداولها بين النّاس..” (آل عمران: 140)، ذلك أنّ الوسيلة الحقّة في الباطل قد تنصره، وأنّ الوسيلة الباطلة في الحقّ قد تهزمه، ولا تكون الهزيمة بالضّرورة لذات الحقّ، ولا يكون النّصر بالضّرورة لذات الباطل.

وإذا كانت هذه الآية المؤكِّدة والمؤصِّلة لهذه السُّنّة نزلت في حادثةٍ تاريخيةٍ بعينها، إلاّ أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب، فهي تتحدّث عن “الأيام” بإطلاقها، وتتحدّث عن “النّاس” بعمومهم، وهو ما يؤكّد المنهج القرآني في تقرير القوانين والسُّنن الثابتة بناءً على السّلوك التاريخي للإنسان، بعد تجريدها من أبعادها الزّمانية والمكانية، لتبقى قاعدةً عامّة ومطّردة.

وكما يكون التداول بين الدول والأمم والحضارات، كما قال تعالى: “كلاًّ نمِدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك، وما كان عطاءُ ربّك محظوراً”. (الإسراء: 20)، يكون التداول داخل الأمّة الواحدة وداخل الدولة الواحدة، وحتى داخل الجماعة الواحدة، كما قال تعالى: “وإن تتولّوا يستبدل قومًا غيرَكم، ثمّ لا يكونوا أمثالكم..” (محمد: 38)، قال أبو هريرة رضي الله عنه: يا رسول الله: مَن هؤلاء الذين إذا تولّيْنا استُبدِلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالَنا؟ فضرَب على فخِذِ سلمان الفارسي، وقال: هذا وقومُه”.

ومن الثّمرات اليقينية لهذا الفقه بسُنّة التداول والاستبدال – كسُنّةٍ من السُّنن الجارية- أنّها ترسّخ الاستماع إلى اللحظة التاريخية، والإنصات إلى منطق الحتمية في العلاقة بين المقدّمات والنتائج وبين الأسباب والمسبّبات، وأنّ هذا الاعتقاد فيها يزرع الأمل الحارّ والعائد، بأنّ التخلّف والفساد والظّلم والاستبداد والهزيمة ليست قَدَرًا لازمًا ولا أمرًا دائمًا، فهناك الأمل في اقتناص فرص التغيير والتداول، وفق سُنَنِه وشروطه.

وهو ما نلمسه من التحذير القرآني القوي، بعد هزيمة أُحُد، أن تقع الهزيمة النفسية، والاستسلام للأمر الواقع، والتسليم باللحظة الرّاهنة وكأنّها لحظةٌ جامدةٌ ودائمة، فقال تعالى عن تلك الأجواء النّفسية لهزيمة “أُحُد”، وهو يقاوم اليأس الذي تسرّب إليها: “ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.” (آل عمران: 139)، وهو درسٌ في عدم الاستسلام لِلَحظة الهزيمة الخادعة، فما هي إلا كسْبٌ من التجربة، يُبنى عليها مراعاةُ السُّنن للاستمرار في العمل والتضحية والعطاء والإنجاز، لأنّ الانتصارات أو الانكسارات لا تأتي فجأةً أو صُدفةً، بل تخضع لفعلٍ تراكميٍّ، وتحتكم إلى فقهٍ سًننيٍّ ثابت، وهي – في أصلها- عملٌ جماعيٌّ تشاركي، وإن كانت في صورتها النهائية إنجازٌ يكتبه التاريخ لقائدٍ مُلْهمٍ أو موهوب، ويغفل النّاس عن مسيرة السُّنن الاجتماعية والتاريخية في شكلها الممتدّ والمتدرّج، ولا يرون إلاّ تلك الحلقة الأخيرة من ذلك المسلسل الطويل من الانتصار أو الانكسار.

وقد مَنَّ اللهُ تعالى على هذه الأمة ألاَّ تتعرّض للاستئصال الحضاري والإفناء التاريخي، وبالتالي فهي قادرةٌ على “التداول”، وأنّ ما يقع لها هو مجرد الوَهَنُ الحضاري، كنوعٍ من أنواع العِلل والعقوبات التي تصيبها، بسبب المعاصي السياسية والفكرية والاجتماعية والحضارية، وفق الحقيقة النّصية في الحديث النبوي المشهور: “يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكَلَة على قصعتها”، وعندما سُئل عن سبب ذلك: قيل وما الوهَنُ يا رسول الله؟ قال: “حبُّ الدّنيا وكراهية الموت.”، أي بروز الإنسان الاستهلاكي الغرائزي الذي لا يرى إلاّ حقوقه، وزوال الإنسان المضحّي المنجِز الذي لا يرى إلاّ واجباته.

وهذا الوَهَن قابلٌ للعلاج من أجل الاستئناف الحضاري من جديد، إذا أبْصرنا شروطه، وتحقّقنا بأسبابه، وانسجمنا مع سُننه، لأنّ القابلية للنّهوض كامنةٌ ودائمةٌ ومستمرّة.

والعقوبات الدّينية والابتلاءات الدنيوية – بسبب ذلك الوَهن – ما هي إلاّ منبّهاتٌ حضارية وتحدّياتٌ مستفزّة ومحفّزاتٌ باعثةٌ للتجاوب بفاعليةٍ مع سُنن التدافع والتداول والتغيير والتسخير.

هذا اليقين في تحقّق سُنّة التداول والاستبدال مبنيٌّ على الإدراك بأنّ للدول والحضارات أعماراً مثل أعمار الأفراد، التي قال عنها ابن خلدون في “المقدّمة”: (الفصل الرّابع عشر: في أنّ الدولة لها أعمارا طبيعية كما للأشخاص)، مصداقًا لقوله تعالى: “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ” (الأعراف: 34)، وأنّ الظلم والفساد في أيِّ دولةٍ أو حضارةٍ هو السّبب المباشر في سقوطها، وهو النّاموسُ الحاكِم في التداول عليها والاستبدال لها، كما قال تعالى: “وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً، وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ.” (الأنبياء: 11).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • مهندس الإنسان

    كأنك تتمنى سقوط الحضارات التي لا تعجبك
    مثلا أن أن تسقط حضارة الغرب وترث أنت وأحفادك أراضيهم
    وتسبوا نسائهم وكل تلك الغنائم الثمينة التي تحلمون بها ليل نهار
    فكلامك يكشف لأي طائفة تنتمي
    على كل حال وفي زماننا تشابهت افعال الأمم برغم إختلافها
    وقد سبق ولمحت في عدة مناسبات عن أسلوبكم في الكتابة
    لماذا تكتب عن أمتك وكأنها ملاك بريئ أمام الأمم الأخرى
    وأنت تعلم كما الجميع يعلم بخبث أمتك
    طماعيين وحسادين حاقدين وغدارين تافهين و ممليين