-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

شتّان بين العالمين يوسف سعد وفون نيومان

شتّان بين العالمين يوسف سعد وفون نيومان

كانت وزارة التعليم العالي قد طلبت من مؤسساتها التعليمية الاحتفال باليوم الدولي للرياضيات (14 مارس) وخصصت أسبوعا كاملا من 11 إلى 16 مارس لهذه التظاهرات. وهكذا أقيم بهذه المناسبة في المدرسة العليا للأساتذة بالقبة حفلٌ متواضع يوم 12 مارس جاءت في برنامجه 3 محاضرات، إحداها في تاريخ الرياضيات ركز صاحبها على الرياضياتي الجزائري ابن حمزة (القرن 16م)، وأخرى في التعليمية تخللتهما مداخلة للزميل عبد العزيز شوتري حول الرياضيات التطبيقية.

اللافت في هذه المحاضرة أن زميلنا لم يقدّم فيها كلاما عامًّا حول تطبيق الرياضيات، بل هدفه كان إبراز إسهام 3 علماء جزائريين معاصرين في مسيرة التقدم التكنولوجي الحالي، وهم: المقيم في أمريكا يوسف سعد (إسهام في فرع الحوسبة العلمية، إذ أتى بطريقة فريدة في حلول جمل من المعادلات سهَّلت كثيرا من العمليات في مجال الصناعة)، والمقيم في كاليفورنيا الربيع جلولي (إسهام في فرع معالجة الصور)، والمقيم في باريس فريد مقران (إسهام في مجال التعْميَة والتشفير)، فكانت المحاضرة تحمل بعدا وطنيا وعلميا في آن واحد. وما هي إلا أيام معدودات حتى تم الإعلان عن نيل يوسف سعد جائزة فون نيومان الأمريكية.

جدارة يوسف سعد

الغريب أننا نجد يوسف سعد قد سجل في صفحته الإلكترونية كل سفرياته ومشاركاته في الملتقيات عبر العالم منذ عام 2000 إلى منتصف السنة الجارية. والمؤسف أننا لم نجد له في هذا الترحال سوى 3 زيارات للجزائر خلال كل هذه الفترة، وذلك للمشاركة في مؤتمرين (عامي2007 و2008) والزيارة الثالثة كَتب أمامها “زيارة شخصية”. وهذا يدل على النقص الفادح في التواصل مع أمثال هؤلاء العلماء الجزائريين من قبل جامعاتنا للتعاون معهم. إنه لمن المؤسف حقا أن نرى هذا العالِم المتواضع يجوب القارات الخمسة بكثافة ولا يكون نصيب الجزائر منها إلا زيارتين علميتين خلال عقدين!

تُمنح جائزة فون نيومان von Neumann كل سنة منذ إنشائها عام 1959 وذلك من قِبل جمعية الرياضيات الصناعية والتطبيقية الأمريكية (SIAM). ويفوز بها في كل مرة “فردٌ لمساهماته البارزة والمتميزة في مجال الرياضيات التطبيقية”. وتقديراً لمساهمات يوسف سعد الأساسية في الحوسبة العلمية كانت هذه الجائزة من نصيبه خلال السنة الجارية.

يُعدّ عمل يوسف سعد في موضوع الخوارزميات الحسابية مؤثرًا في مجالات عديدة؛ إذ يمكن تطبيقها على مجموعة واسعة من المسائل المطروحة في العلوم والهندسة الحسابية، بما في ذلك الكيمياء الكمومية، وعلم المواد، وعلم البيانات. بالإضافة إلى ذلك، يشير مانحو الجائزة إلى أن ليوسف سعد كتابين قيّمين كان لهما تأثيرٌ كبير على الباحثين النظريين والتطبيقيين. ولا يزال الكتابان يمثلان نموذجا للكتابة التفسيرية في هذه المجالات الهامة من الرياضيات التطبيقية.

ومن تقاليد الجائزة أن يلقي صاحبُها محاضرة في مؤتمر الجمعية المذكورة. وسيقام المؤتمر هذه المرة خلال الفترة الممتدة من 20 إلى 25 أوت 2023، في العاصمة اليابانية طوكيو، وسيقدِّم يوسف سعد محاضرته يوم 22 أوت.

لقد حصل سعد على شهادة الليسانس في الرياضيات من جامعة الجزائر عام 1970. ثم على دكتوراه الدور الثالث من جامعة غرونوبل الفرنسية عام 1974، ثم حصل من نفس الجامعة على دكتوراه الدولة عام 1983. عاد بعد ذلك إلى أرض الوطن وشغل منصب أستاذٍ مساعد بجامعة تيزي وزو خلال السنة الجامعية 1983-1984، ثم غادرها نهائيا إلى الولايات المتحدة واشتغل في عدة جامعات، آخرها جامعة مينوسوتا عام 1990 حيث يمارس البحث والتدريس إلى اليوم.

من هو فون نيومان؟

لقد تم إنشاء هذه الجائزة في عام 1959 لتكريم الأمريكي المجري جون فون نيومان (1903-1957)، كعالم في حقل الرياضيات والفيزياء وعالم الحاسوب باعتبار أن عمله ساعد في تأسيس الحوسبة الحديثة. لكن فون نيومان لم يكن عالما بالمعنى الذي يحمله المؤمنون بالسلام والعاملون من أجله، ولا بالمعنى الذي يفهمه السواد الأعظم من الناس؛ فهو منحدر من عائلة بورجوازية يهودية مجرية، يبدو أن بعضها أو كثيرا منها تحوّل إلى المسيحية. وعاش جون في هذا المحيط الذي جعله يكره المدّ الشيوعي بوجه خاص.

وانتقل جون فون نيومان إلى الولايات المتحدة في مطلع الثلاثينيات بعدما كان له شأنٌ كبير في جامعة غوتينغن Gottingen الألمانية  ذائعة الصيت. وإذا كان الكثير من العلماء الأوروبيين اليهود قد فرّوا إلى أمريكا خشية من النازية فيبدو أن نيومان لم يكن ذلك سبب هجرته. ومنذ وصوله إلى أمريكا انخرط بكل قواه في المشاريع الحربية الأمريكية، وكان شديد الحرص على إنجاحها، ومن تلك المشاريع، مشروع منهاتن المسؤول عن صناعة القنبلة الذرية.

يقارن الكثير من العارفين عبقرية جون نيومان بعبقرية آينشتاين، وكان بالإمكان أن تكون له نفس “الشعبية” في الأوساط العلمية وغيرها في العالم. لكن توجُّهه الفكري الذي لا يرى مانعا من استعمال السلاح النووي لسحق البشر وتدمير العمران على نطاق واسع يبدو أنّه حال دون أن ينال شهرة تمجِّد خصاله وأعماله.

المؤسف أننا لم نجد له في هذا الترحال سوى 3 زيارات للجزائر خلال كل هذه الفترة، وذلك للمشاركة في مؤتمرين (عامي2007 و2008) والزيارة الثالثة كَتب أمامها “زيارة شخصية”. وهذا يدل على النقص الفادح في التواصل مع أمثال هؤلاء العلماء الجزائريين من قبل جامعاتنا للتعاون معهم. إنه لمن المؤسف حقا أن نرى هذا العالِم المتواضع يجوب القارات الخمسة بكثافة ولا يكون نصيب الجزائر منها إلا زيارتين علميتين خلال عقدين!

وفي هذا السياق يُذكر أن دوره الأساسي في استعمال القنبلة النووية هو حساب الارتفاع الدقيق فوق سطح الأرض الذي ينبغي عنده تفجير القنبلة لتكون أكثر دمارا للعمران وقتلا للبشر. ذلك الارتفاع الذي دققه فون نيومان هو الذي سمح ببلوغ درجة الحرارة 4 آلاف درجة خلال لحظات على وجه الأرض غطت مساحة قطرها 24 كلم، وهو ما أزال الأخضر واليابس في رمشة عين. وهذا ما حدث في تفجير القنبلة الذرية فوق مدينتي هيروشيما ونغازاكي. وكان نيومان سعيدا بذلك.

بل إن عشق فون نيومان للدمار لم يقف عند هذا الحدث إذ تم طرح السؤال التالي على عدد من العلماء حين قررت السلطات الأمريكية تفجير قنابلها في اليابان عام 1945: أي المدن اليابانية نختار لتدميرها بالسلاح النووي؟ وكان فون نيومان أحد من تمّت استشارتهم في الموضوع، فاقترح أن تكون مدينة كيوتو Kyoto هي الهدف، وهي المدينة الملقبة عند أهلها بـ”عاصمة السلام والسكينة” والتي تحمل كل الإرث الحضاري لليابان إذ كانت عاصمة البلاد خلال فترة تجاوزت 8 قرون!

ولحسن الحظ -رغم أن لا حظّ يجد مكانه في هذا المقام- أن السياسيين الأمريكيين تدخّلوا، ومنهم الرئيس روزفلت، لتجنُّب تدمير هذه المدينة المليئة بالتاريخ. وكان نيومان يحثّ أيضا على ضرب موسكو بالسلاح النووي. وفي الوقت الذي عبّر فيه كثيرٌ من العلماء الذين ساهموا في تصنيع القنبلة النووية عن ندمهم بعدما لاحظوا دمارا بشريا وخرابا عمرانيا واسعا عشية ضرب المدينتين اليابانيتين، لم يحرِّك هذا الدمار ساكنا لنيومان، والأدهى من ذلك أنه وجَّه انتقاده إلى بعض من شعر بالندم.

دولة السويد المعروفة بتأسيس جائزة نوبل لها جائزة أخرى من كبريات الجوائز العالمية التي تُمنح لعلماء الرياضيات وقيمتها تفوق جائزة فون نيومان، وهي جائزة كرافوورد Crafoord. نتمنى أن تكون هذه الجائزة من نصيب الباحث يوسف سعد لأن السويدي هولجر كرافوورد -الذي سُمّيت باسمه هذه الجائزة- كان يُسوِّق لمساعدة البشر ومرضى الكلى… ولم يكن يُسوِّق لدمار البشر على شاكلة جون فون نيومان الذي لقي حتفه قبل أن يبلغ 55 سنة من العمر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!