-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

شعبان.. شهر “عرض الأعمال”

سلطان بركاني
  • 1028
  • 1
شعبان.. شهر “عرض الأعمال”
ح.م

توالت الأيام وتعاقبت الأسابيع، ورحل شهر رجب الحرام.. وها نحن نعيش أول أيام شهر شعبان الفضيل، شهر كفاه شرفا أنّه يوطّد لرمضان.. شهر كان الحبيب المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام- يجتهد فيه تحسّبا لعرض أعماله على الله؛ فكما أنّ أعمال اليوم تعرض على الله بعد العصر وبعد الفجر، وأعمال الأسبوع تعرض كلّ اثنين وخميس، فإنّ أعمال العام تعرض في شهر شعبان، لتقبل أو تردّ، تضاعف أو تحبط.

العليم الخبير سبحانه مطّلع على أعمال وأقوال وأحوال عباده وما تكنّ صدورهم، في كلّ وقت وكلّ حين، ومع ذلك قضى أن تعرض عليه أعمال عباده في أوقات ومواسم محدّدة، وأخبر رسولُه المصطفى –عليه السّلام- بذلك، ليستحضر العباد هيبة وجلالة الموقف في الدّنيا، استعدادا لهول موقف عرض آخر أدقّ وأصعب يوم القيامة: ((يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)).

أعمال العام كلّها، بما فيها من خير وشرّ، من اجتهاد وتفريط، ترفع في شهر شعبان لتعرض على عالم الخفيات وقيوم الأرض والسّماوات، ليقبل منها ما شاء بفضله ورحمته، ويردّ منها ما شاء بعدله؛ فحريّ بنا أن نستشعر رهبة هذا الموقف في أيام هذا الشّهر الذي نعيش ساعات أوّل يوم من أيامه.. حريّ بكلّ واحد منّا أن يشعر بالحياء والخجل والوجل من الله وهو يتذكّر سيّئاته التي اجترحها في الأيام والأسابيع والأشهر الماضية، وذنوبه التي اقترفها في الخلوات. يتذكّر الصّلوات التي أخّرها حتى خرج وقتها، ويتذكّر أنّه منذ الستة من شوال العام الماضي، ربّما لم يصم يوما واحدا يبتغي الأجر من الله.. وهو يتذكّر الكلمات السيئة التي نطق بها لسانه، ويتذكّر النّظرات التي قلّبها في العورات، ويتذكّر تأفّفه من كلام أمّه وضجره من طلبات أبيه…

والله إنّه لموقف عظيم، أن تُعرض أعمالنا على خالقنا سبحانه.. لو كان الواحد منّا يعلم أنّ عمله سيُعرض على والده، لاستعمل كلّ الطّرق والوسائل ليمحو الأعمال السيّئة التي لا يحبّ أن يطّلع عليها أبوه الذي يوقّره ويحترمه، فلماذا لا نفكّر في التّوبة ومحو أعمالنا السيّئة ونحن نعلم أنّ أعمال العام تُعرض في شعبان على الله، وأعمال الأسبوع تُعرض كلّ اثنين وخمس؟ هذا أحد صحابة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، سعيد بن يزيد الأزديّ رضي الله عنه، أتى نبيّ الهدى -عليه الصّلاة والسّلام- يوما فقال: أوصنِي، قال عليه الصّلاة والسّلام: “أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِح”.. هذا أضعف الإيمان؛ أن يستحي العبد المؤمن من الله كما يستحي من الرّجل الصّالح، فيترك ما يعلم أنّ الله لا يحبّه من الأعمال والأحوال والأقوال حياءً منه سبحانه، كما يترك بعض الأعمال والأقوال والأحوال في حضرة رجل صالح يحترمه.. والحقيق بالعبد المؤمن أن يستحي من خالقه ومولاه سبحانه أكثر من حيائه من النّاس.

تأمّل أخي المؤمن حال بعض الصّالحين في حيائهم من الله؛ هذا صدّيق الأمّة أبو بكر رضي الله عنه يقول: “يا أيها النّاس، استحيوا من الله؛ فإني أذهب إلى الغائط فأظلّ متقنّعا بثوبي حياءً من ربي عز وجل”.. وهذا الفضيل بن عياض رحمه الله، وقف مع النّاس يوم عرفة، وجعل يبكي بكاءً شديدا، ولم يستطع أن يحرّك لسانه بالدّعاء، حتى إذا كادت الشّمس أن تغرب، رفع يديه إلى السّماء وقال: “واحياءاه منك وإن غفرت، واسوأتاه منك وإن عفوت”.. يقول التّابعيّ عبد الله بن أبي الهذيل رحمه الله وهو يتحدّث عمّن أدرك من جيل الصّحابة: “أدركنا أقواما، كان الرّجل منهم يستحي من الله أن يتكشّف في سواد الليل”.. فيا الله! يستحي الواحد منهم من الله فيما هو مباح.

قد تقول أخي المؤمن: إنّ هؤلاء عاشوا في زمن الخير والصّلاح، وزماننا هذا زمان آخر، فتأمّل معي حال هذا الرّجل الصّالح نحسبه كذلك، من أهل زماننا.. يروي قصّته أحد الأئمّة الخطباء، يقول: تحدّثت في إحدى خطب الجمعة عن لقاء الله -جلّ وعلا- وعن الوقوف بين يديه والحياء منه، فجاءني بعد الصّلاة رجل قد احمرّت عيناه من كثرة الدموع، وهو يسألني بحزم يقول: هل ستظهر ذنوبي أمام الله تعالى يوم القيامة؟ قلت له: إذا تُبت منها تتحوّل الى حسنات، فأعاد عليّ نفس السّؤال لكن بصيغة فيها حزم أكثر، قال: هل ستظهر ذنوبي يوم القيامة أمام الله أم لا؟ قلت: إذا تبت من ذنوبك وأصلحت تكون في ميزان الحسنات وليس في ميزان السيئات، فلمّا أعاد عليّ السّؤال مرة ثالثة، قلت له: مالَك؟ لماذا تسأل؟ قال: والله أستحي من الله، والله أنا مستحٍ من الله.

أخي المؤمن.. أعمالك التي عملتها خلال العام المنصرم تعرض في الأيام القادمة على الله.. فيا ترى كم صلاة حافظت عليها في بيت الله؟ وكم مرّة ختمت القرآن؟ وكم ليلة قمت في جوف الليل ولو بركعتين، وكم مرّة بكَيت لله؟ وكم يوما صمت تبتغي الأجر والمثوبة من الله؟ كم دينارا تصدّقت به في سبيل الله أو على الفقراء من أقاربك وجيرانك؟ كم مرّة قبّلت رأس أبيك ويد أمّك؟ كم مرّة أدخلت السّرور على قلبيهما بهدية أو جولة أو حتى كلمة طيّبة أو ابتسامة حانية؟ كم مرّة أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر في بيتك؟ كم مرّة عاتبت زوجتك وأبناءك وبناتك على الصّلاة؟ كم مرّة زجرت أبناءك عن السّهر خارج البيت؟ كم مرّة أنّبت وزجرت بناتك على لبس الضيّق والقصير وعلى متابعة المسلسلات وسماع الأغنيات؟ كم مرّة دعوت الله لإخوانك المسلمين المكلومين والمضطهدين؟.

إنّ الواحد منّا إن لم يستحِ من عرض أعماله على الله في هذه الدّنيا فيتوب ويؤوب لتمحى سيّئاته وغدراته وفجراته، فإنّه سيأتي عليه يوم بعد الموت، يقف في عرصات القيامة للعرض ((يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ))، ويأخذ كتابه، فيجد فيه كلّ أعماله، صغيرها وكبيرها عظيمها وحقيرها، فيتعجّب من سعة الكتاب ودقّته ويجد نظراته وهمساته وكلّ أعماله التي كان يستخفي بها ويظنّها هيّنة، فيقول: ((مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا))، ثمّ يكون العرض على الله، فيقف العبد ذليلا منكّس الرّأس بين يدي الواحد الديّان جلّ في علاه، وقلبه يكاد يتفطّر حياءً وخجلا من الله، بسبب تلك الأعمال السيّئة التي لم يتب منها في الحياة الدّنيا، ويزداد الحياء والخجل عندما يُختم على لسانه وتنطق جوارحه بما اقترفه في الحياة الدّنيا ولم يتب منه: ((الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون)).

كان الصّالحون من عباد الله يعرفون لشعبان قدره، وكانوا يجعلونه شهرا يتوبون فيه إلى الله، ويرقّقون فيه قلوبهم استعدادا لرمضان، وكان قائلهم يقول: “شهرُ رجب هو شهرُ الزرع، وشهرُ شعبان هو شهرُ سَقْي الزرع، وشهرُ رمضان هو شهْرُ حَصادِ الزرع”.. فماذا أنت فاعل -أخي المؤمن- في أيام شعبان إن كنت ترجو أن يكون زادا لك لاستقبال رمضان.. إن كنتَ تريد أن يكون رمضان هذا العام هو رمضانَ الذي تسعد به في الدّنيا والآخرة، ورمضانَ الذي يكون بداية لحياة جديدة، فابدأ من الآن، احمل همّ عرض أعمالك على الله. تُب إلى الله من كلّ ذنوبك، وابدأ بالاستعداد لرمضان من الآن.. لا تستقبل رمضان بقلب قاسٍ ونفس غافلة، لا تستقبله ولسانك جافّ من ذكر الله وتلاوة كلامه.. إنّ رمضان هو جنّة الشّهور، لا يوفّق لها إلا من حمل همّها واستعدّ لها.

إياك أخي والغفلة في هذه الأيام.. روّض نفسك بدءًا من الآن على الصّلاة في بيت الله، وعلى تلاوة جزء من القرآن يوميا، وعلى قيام الليل ولو بركعتين بين أذان الفجر الأوّل والثاني.. صم أيام البيض وكل اثنين وخميس من شهر شعبان.. لا تنس أنّ حبيبك وقدوتك وشفيعك المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام- ما كان يصوم في شهر آخر غير رمضان كما يصوم في شعبان، فعن أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما قالتا: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان إلا قليلاً” (رواه الترمذي).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • ثانينه

    الدين الاسلامي والايمان به تقابله الاعمال وليس الاقوال كفي ثرثره..والمومن يبدي بروحو