الرأي

شقيقي سليمان الشهيد وشذرات من حياتنا بالريف

عثمان سعدي
  • 1413
  • 9

صدر لي كتيب عن دار الأمة عنوانه:”شقيقي سليمان الشهيد وشذرات من حياتنا بالريف”، وأرى أن أجعل قراء “الشروق” يطلعون على مختصر من هذا الكتيب:

وأبدأ بقصة جهادك واستشهادك، شاهدت وأنت في عنفوان الشباب بداية الثورة، فقررت الانضمام لجيش التحرير الوطني في سنة 1955 أي بعد سنة من اندلاع الثورة، وأنت في سن الواحدة والعشرين. شاركت في عدة معارك، روى لي بعض رفاقك أنك كنت تسلي زملاءك من شظف العيش الجهادي القاسي بترديد أغاني وكان صوتك جميلا وأداؤك أجمل، كنت تطرب رفاقك بتذكرهم بأغانيك بأمهاتهم وزوجاتهم وأبنائهم وبناتهم وإخوتهم وأخواتهم. كنت بين الآونة والأخرى تأتي إلى والدتنا التي كانت تحبك أكثر من أبنائها، فتقضي معها ومع أختنا مائسة وزوجها حسين والطفلة كلثوم ابنة أختنا يمينة ليلة تأخذ منها دعواتها وبركاتها ثم تعود للجهاد. كنت تضع بطاقة التجند في سقف المنزل، حتى إذا قام العدو بغارة لم يكتشفك. كما تم حرق سائر الصور للمجاهدين بما فيها الصور في سجلات الحالة المدنية حتى لا يتعرف العدو عليكم. بحثت عن صورة لك فلم أجد لك صورة بالرغم من قضاء أربع سنوات في الجهاد.

 أصبت حبيبي سليمان في معركة ونقلت إلى تونس للعلاج، نصحك الأطباء بعدم العودة للجهاد لأن الإصابة أثرت، فقلت لهم: “سأعود ولأمت هناك بالجزائر لأنني طالب شهادة”. وعدت ضمن مجموعة حملت السلاح للولاية الثالثة، ووصلت الولاية وسلمت السلاح، وفرضوا عليك العودة إلى الولاية الأولى بلا سلاح ولا مال، ولاحظ ضابط قبائلي شهم فأمدك بعصا وبقليل من المال مكنك بجهد كبير من الوصول إلى الناحية السادسة بالولاية الأولى، وأخبرني زملاؤك بأنك كنت تعلق على ذلك بقولك “نعم نقلت السلاح إلى اخوتي زواوة كما كان يسميهم أخي عثمان، وأنا فخور بذلك لأن هذا السلاح الذي نقلته سيتسبب في قتل الأعداء”.

 إعادة تنظيم الشعب: كُلفت بالمهمة الصعبة وهي إعادة تنظيم الشعب الذي تأثر بفوضى، فتم اختيارك مع رفاق لك في دشرة ذراع البقرات ببَحيرَة الأرنب، اخترتم بئرا جافة ومهجورة، فأقمتم داخلها مخابئ تأوون بها نهارا، وتخرجون ليلا لتنظيم الناس.

وذهبت الوشاية الخائنة واكتشف العدو مخبأكم في البئر، فجاءوا بك مقيدا ووجهك مغسولا بالدم، محمولا على سيارة جيب، وقفت السيارة أمام أكواخنا في (ذراع البقرات)، كنت تصيح: “قلت لكم أنا لست جزائريا أنا تونسي متطوع في صفوف الجزائريين، أنا من تونس”. واستدعى الضابط الفرنسي والدتنا فوقفت أمام السيارة، قال لها:”أنت العجوز زينة بنت الأخضر؟”، فأجابته: “نعم، أنا هي” فقال: “أتينا لك ابنك”، واقترب منها متفحصا وجهها، أجابته: “لا أعرفه لأول مرة أرى هذا الشاب”. واستدارت السيارة، فنزلت الدموع من عينيها، لكن الغبار الذي انطلق من تحت عجلات السيارة لم يتح للضابط الفرنسي رؤية هذه الدموع..

وفي أثناء مغادرتك للدشرة مقيدا مرت أمامك عجوز تحمل برميلين من الماء على حمار فقلت بالشاوية “لا تخافوا يوجد رجال”، معنى هذا سأموت تحت التعذيب ولا اعترف بأنني منكم.

ومعنى هذا أن الفرنسيين عذبوك يا عزيزي سليمان ولم تعترف بأنك جزائري ، ومتْتَ تحت التعذيب والفرنسيون يتصورون أنك تونسي، ولو اعترفت لعاد الأعداء إلى (ذراع البقرات) ودمروا أكواخها. وهذه قمة التضحية التي وصفت بها كمجاهد صلب.

والدتنا أنجبت ستا: ولدين وأربع بنات،. استشهد أحد الولدين، وترملت بنتان شهبة ووناسة كأرملتي شهيدين، ترك الشهيد البشير للأولى سبعة أطفال، وترك الشهيد موسى للثاني خمسة، وكان لي الشرف يا حبيبي سليمان أنني قمت برعاية الجميع.

 وخير ما أختم به هذه العجالة عنك يا سليمان قصة الوالدة وما فعل بها الجنود المستعمرون . كانت هذه الوالدة تعاني من فتق سببته لها ضربة بعقب بندقية من ضابط فرنسي علم بأن لها ولدان بالجهاد، فسألها عنهما فقالت له لا أعرف أينهما، فضربها فسبب لها فتقا في بطنها… وبعد الاستقلال قررت إجراء عملية لها ، أدخلتها مستشفى مصطفى وقرر جراح سوري إجراء العملية، ومن المعلوم أن مشتشفيات الجزائر قد خلت تقريبا من الأطباء الاختصاصيين عندما غادر الأطباء الفرنسيون الجزائر بعد الاستقلال، وبقي بها عدد قليل من الأطباء الجزائريين، فقررت الحكومات العربية إرسال جراحين للجزائر تدفع لهم مرتباتهم. والدول العربية التي لا تملك أطباء كالكويت مثلا تعاقدت مع اطباء عرب يعملون لحسابها بالجزائر. أدخلت والدتنا المستشفى، وفي يوم إجراء العمليبة حضر الجراح السوري لمرافقة الوالدة لغرفة العمليات فدار الحوار التالي بينهما:

ـ أسألك يا ابني الطبيب ، إذا لم تجر لي العملية هل أموت بهذا المرض

ـ لا يا أمي لا تموتين وإنما تعيشين معذبة، تتعبين عندما تسيرين، لا تتحملين حمل شيء ثقيل
. (خلّيهولي يا ولدي هذا اللّي باشْ نـﭭابل بيه غُدوة وجْه ربّي)، أي دع لي هذا الفتق إنه هو الذي سأقابل به ربي غدا يوم القيامة.

وتاثر الجراح فدمعت عيناه ، وقال لها:

ـ تقطع اليد التي تحرمك من جواز سفرك للجنة.

ولم تجرَ العملية. وعاشت بهذا الفتق إلى ان أدركتها الوفاة.

مقالات ذات صلة