-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

شهر التّجارة الرّابحة

سلطان بركاني
  • 616
  • 0
شهر التّجارة الرّابحة

لعلّ من أهمّ ما يميّز رمضان، أنّه الشّهر الوحيد الذي ينتظره الصّغير والكبير، والغنيّ والفقير، والموظّف والتّاجر.. لكن شتان بين من ينتظر رمضان ليأكل من ألذّ الأطعمة ويسهر في المقاهي حول طاولات اللعب، وبين من ينتظره ليتوب ويصلح ويبدأ صفحة جديدة من حياته وعهدا جديدا مع الله.. شتان بين ينتظره ليتاجر مع النّاس ويضاعف أرباح تجارته وينفق سلعته، وبين من ينتظره ليتاجر مع الله ويزيد رصيد حسناته ويفرغ رصيد سيئاته.. شتّان بين من عينه على الزّبائن المتوافدين على الأسواق، وبين من عينه على قول الله عزّ وجلّ: ((إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُور)).. رمضان هو شهر التجارة والأرباح، لكن شتان بين تجارة أرباحها فانية، وبين تجارة لا تبور أرباحها مضمونة ومضاعفة.
لعلّه يحسن بنا ونحن نعدّ الأيام لاستقبال رمضان، أن نمحّص نياتنا وأحوالنا وننظر أيّ التجارتين نريد ولأيّهما نعدّ ونستعدّ؟ ليس حراما أن يتاجر العبد المؤمن في رمضان مع إخوانه، وليس حراما أن يبيع ويشتري، وكيف يكون ذلك حراما وقد أباح الله البيع والشّراء في موسم الحجّ فقال: ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ)). لكنّ الحرام والحرمان أن ينشغل العبد في شهر التجارة الرابحة وشهر تفتّح أبواب السّماء وأبواب الجنان، بالفاني عن الباقي، وتكون ساعاته كلّها بين بيع وشراء وطواف في الأسواق بالنهار وجلوس في المقاهي ومتابعة لبرامج الضّحك بالليل.. مرَّ الحسن البصريّ -رحمه الله- بقومٍ يَضْحكون في شَهْر رَمضان، فقال: “يا قوم، إنّ الله جعل رمضان مِضْماراً لِخَلْقِه يَتسَابقون فيه إلى رَحْمتِه، فَسَبَق أقوامٌ ففازُوا، وتخلَّف أقوامٌ فَخَابوا، فالعَجب من الضاحِكِ اللاّهي في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المتخلِّفون؟ أما واللّهِ لو كُشِف الغِطاء لَشَغَلَ مُحْسِناً إحسانُه ومُسِيئاً إساءتُه” (العقد الفريد).
كأنّ رمضان ينادي في النّاس هذه الأيام ليستعدّوا بقلوبهم وأرواحهم قبل جيوبهم ومطابخهم، كأنّه ينادي قائلا: “يا من طالت غيبته قد قربت أيام المصالحة.. يا من دامت خسارته قد أقبلت أيام التجارة الرابحة.. من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح.. من لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يربح.. كم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار قبله إلى ظلمة القبر كم من مستقبل يوما لا يستكمله ومؤمل غدا لا يدركه”.
ها نحن قد أعددنا عدّة البطون، وتزاحمنا في الأسواق على الزّيت والسّميد، واقتنينا ما يكفينا ويزيد من مؤونة رمضان؛ فهل آن الأوان لنعدّ مؤونة قلوبنا في رمضان.. قلوبنا قد قست وأرواحنا قد أظلمت بكثرة المآكل والمشارب والملهيات، فهل آن لنا أن نعدّ العدّة لنصلح قلوبنا وأنفسنا وأرواحنا؟
بين رمضان العام الماضي ورمضان هذا العام مات ما لا يقلّ عن 75 مليون إنسان؛ بينهم ما لا يقلّ عن 15 مليون مسلم؛ منهم من ضيّع رمضان العام الماضي فقضى أيامه في النّوم ولياليه في المقاهي.. منهم من تاب في أوّل رمضان وعاد إلى ما كان عليه في آخر رمضان، ومنهم من حدّث نفسه بالتوبة، فقالت له نفسه: على رسالك، لا تتعجّل لا يزال في العمر بقية، وقت التوبة لم يحن بعد، فكان رمضان العام الماضي آخر رمضان يعيشه وهو لا يدري.. كم من إخوان وأحباب وأصحاب لنا، كانوا معنا في رمضان الماضي، وهم الآن في قبورهم ينتظرون ممّن أدرك رمضان أن يدعو لهم ويتصدّق عنهم.
إنّ من أهمّ ما يعين العبد المؤمن على حسن استغلال رمضان، أن يتجهّز لشهر التوبة والغفران على أنّه آخر رمضان يعيشه، ويصومه صيام مودع.. جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، علمني وأوجز، فقال عليه الصّلاة والسّلام: “إذا قمت في صلاتك، فصل صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعتذر منه، وأجمع اليأس عما في أيدي الناس”، وهذه الوصية تنفع في الصّلاة وفي الصيام وفي الحجّ وفي الصّدقة.. فالعبد المؤمن إذا صلّى، صلى صلاة مودّع، كأنّها آخر صلاة له، كأنّه سيلقى الله بعد تلك الصّلاة، وكأنّ ملك الموت قد جاءه وأمهله ليصلّي تلك الصّلاة الأخيرة قبل أن يقبض روحه.. وإذا تصدّق، تصدّق صدقة مودّع، لكأنّ صحيفته ستختم بعد تلك الصّدقة، فيتصدّق مكثرا متواضعا سائلا الله القبول.. وإذا حجّ، حجّ حجة مودّع، لكأنّها الحجّة التي سيلقى الله بعدها ويقف بين يديه للحساب.. وهكذا في كلّ عام، يصوم رمضان صيام مودّع ويقومه قيام مودّع، ويقرأ القرآن فيه قراءة مودّع، لكأنّه سيلقى الله قبل قدوم رمضان آخر.
ومن أعظم ما يعين العبد على حسن استقبال واستغلال رمضان، كذلك، أن يحصي عمره، وينظر كم أمهله الله بعد البلوغ، وكم زاد في عمره من سنوات وأشهر وأيام، وينظر كم فرصة لدخول الجنّة ضيّع، وكم أعمال صالحة أخّر.. وينظر في المقابل كم جمع من الآثام وكم اجترح من المعاصي صغائرها وكبائرها.. ثمّ يسأل نفسه: ماذا لو لقيت الله على هذه الحال وبهذه الذّنوب، مستحضرا قول الله تعالى: ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُون)).
يُروى أنّ رجلا دخل المسجد على حين كان الناس يخرجون منه، فتساءل: لماذا يخرج الناس قبل أن أصلي؟ فقال له أحد المصلين: قد أقيمت صلاة الجماعة وفرغنا منها، فقال: لقد جئت متأخرا! وعند ذلك انطلقت من الرجل آهة تمزقت منها روحه، فقال له أحد المصلّين: يا أخي هون عليك، هب لي تلك الآهة وصلاتي لك.
من لم يتحسّر على عمره في هذه الدّنيا، تحسّر عليه حين يرى ملك الموت فجأة، فيقول: ((يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِين)).. من تحسّر الآن أمكنه أن يصحّح ويصلح، لكنّ من تحسّر عند الموت لم تنفعه الحسرة.. أنفع الحسرات تلك الحسرات التي يطلقها العبد بين يدي رمضان الذي يمكن للعبد أن يعوّض فيه سنوات ضائعة من عمره؛ حيث الأجور تضاعف، والرقاب تعتق، والأوزار تحطّ والذّنوب تغفر كبائرها وصغائرها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!