-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

طلاّب علمٍ أم طلاّب شهاداتٍ؟

لمباركية نوّار
  • 1932
  • 1
طلاّب علمٍ أم طلاّب شهاداتٍ؟

البحث العلمي عملٌ سامي المرتجى وراقي المراد. ومن أعظم مرتكزات البحث العلمي الصرامة والدقة والإتقان. وخسوف أو شحوب واحد من هذه العناصر أو سقمه أو اعوجاجه يُخرج الجهدَ المبذول متعاظمَ العيوب وهزيلا في بنيته ونحيلا في مضمونه ومقضوما بالتزييف ومعلولا بالتحريف. ولا يكاد قارئه ينهيه حتى يجتمع بين عينيه صنوف الردود والنقد. وكم من محاولة بحثية لا يجني صاحبها منها سوى التعب المضني والسهر الطويل ومضيعة الوقت وإفساد الحبر والورق.

يُقصد بالصرامة التشدد وقوة التحكم في المنجز، والنأي عن السير خلف السهل المتوفر والمبسوط أمام الأعين. ويراد بالدقة التحقق من صدق المعلومات مهما كان مصدرها بالموازنة والمقارنة بين مظان ومواضع مصادرها، ومحاولة التقليل من علامات الانتقاص فيها واختزالها إلى حدها الأدنى. وأما الإتقان فرأس مبتغاه الجودة الابتكارية في الموضوع المعالَج، وطرح إشكاليته بتفريعاتها إن وُجدت، والتقيد بخط منهجي مرسوم في حالة الإفراد أو المزاوجة بين المناهج، وتوضيح طريقة تنظيمه وضبطه، وفي جمع المعلومات وتحليلها والتعليق عليها، وفي إحكام أسلوب كتابته من بدايته إلى نهايته.

لا يعدّ إعداد رسالة جامعية في أي مستوى من مستويات التدرج الجامعي هدفا مقصودا في حد ذاته. وإنما الهدف من وراء ذلك هو تدريب الطالب على البحث العلمي، وتزويده بأدوات ووسائل لمواصلة السير مع أعمال أخرى، وغرس لذة التساؤل ومتعة الاستفسار بصورة مستمرة في عقله، وتجنيبه الرضى والاقتناع بالإجابة الجاهزة المباشرة. وحمله على اللجوء إلى التنقيب والاستقصاء عن كل كبيرة يجهلها أو صغيرة لا يعرفها.

يصنع البحثُ العلمي الفروق والتفاوت بين الجامعات في العالم. والجامعات التي توضع على رأس قوائم التصنيف العالمية، وتتقدم المراتب في جداول التصنيفات هي الجامعات التي لا تتوقف عن تطوير وتنويع بحوثها العلمية ووصمها بالجدية. وأما الجامعات التي لا تكترث بالبحث العلمي، فلا تجد لنفسها موطئ قدم في قمة هرم التصنيفات التي تتجدد في كل سنة، وتعتمد على معايير يزداد رفع مستواها سنة بعد أخرى.

منذ أيام، أعارني أحد الآباء المجاهدين الذين عاشوا محن ثورتنا التحريرية نسخة من رسالة جامعية خُصصت للبحث عن أطوار حياته الجهادية ضمن قوافل جيش التحرير الوطني للإطلاع عليها، واستصدار أجوبة عن أسئلة كنتُ طرحتها عليه تدور حول ظروف الولاية التاريخية التي مكث فيها عدة سنوات. وقد رأيت أن أتحفظ عن التعريف بالمجاهد وإخفاء اسم الجامعة التي قدِّمت فيها هذه الرسالة وإغفال من تقدم بها. لأن ذكر هذه المعلومات سيرمي بكلماتي في متاهة الشخصنة التي قد تقلل من قيمة سطوري، وتجعل تأثيرها محدودا ومغلقا. وقد تفسَّر تفسيرا مضللا وخاطئا.

انكببت على قراءة صفحات المطبوعة في نهم، وختمت تقليب صفحاتها في وقت قياسي. ولم تكن قراءتي لها قراءة استعجالية يتسارع معها الانتقال من سطر إلى سطر يليه، والمرور من فقرة إلى أخرى تعقبها. وإنما كانت قراءة متأنية ومتروية، وسرتُ فيها سيرا متمهلا. وظهرت لي ملاحظات فرضت علي الوقوف أمامها، وأجمل أكثرها جلاءً فيما يلي:

ـ استنتجت أن هدف من تقدَّم بهذه الرسالة هو نفضُ يديه من همِّها، والتخلص منها في أقصر مدة زمنية. وهذا يؤشر إلى قلة الاهتمام وانخفاض درجة العناية، وكأن مُعدَّها ينجز عملا يأتيه مكرَها وفي نفسه نفور وهجران وعزوف. ولو تعالت في نفسه رغبة التعلق ببحثه لقويت إرادته، ولزادت الدوافع المحركة لها تجمعا وتأثيرا.

ـ تراءى لي أن المعلومات التي صُبَّت على الورق هي نفسها المعلومات الموجودة في ذهن معدِّ الرسالة. وأنه لا يملك معلومات كثيفة وموسعة عن عمله يوفرها لساعة المناقشة للرد والتوضيح والمحاججة إذا لزم الأمر. مما يعني أنه لم يحط إحاطة موسعة بموضوع أطروحته، وإنما اكتفى باليسير، وقليل البضاعة صيته القناعة، كما يقولون.

ـ لم يحدد الإطار التاريخي الزماني للموضوع المنظور فيه؛ فإذا كانت الفترة الزمنية لأي مجاهد ممتدة من يوم التحاقه بالثورة، مهما كانت الصفة التي التحق بها (عضو في جيش التحرير، فدائي، مسبل، رئيس مركز…) إلى يوم الإعلان عن استرجاع الاستقلال، فإن الفترة المعيشة في زمن الاستقلال لا يمكن اعتبارها شطرا من البحث؛ لأن ظروفها تختلف كليا عن سابقتها. وهذا ما ينبغي الوقوف عنده أثناء صوغ الإشكالية.

ـ صمتت الرسالة عن النبش في الأسئلة الكبرى التي تدور حول الجهاد وظروفه في الولاية التاريخية التي عاش فيها المجاهد المترجَم له. وهي أسئلة كثيرة ما تزال في حاجة إلى مزيد من الإبانة والشرح والتفسير. ولم تلمس قليلها سوى لمس سطحي خفيف وعابر؛ لأن الإجابات التي قابلتها شحيحة، ولم تتعرض إلى التفاصيل التي تنير جوانبها الخفية ولو تعددت المواقف وتنوعت الآراء إزاءها. ولو لم أحمل نفسي على التكتم الذي بحتُ به سابقا لذكرت أمثلة واضحة عن هذه الأسئلة التي يفترض أن يجابهها الباحث مجابهة المستكشِف الذي يبحث عن الحقائق المتوارية في أغوارها، وأن يُشبعها تقليبا وتشريحا. ومن المتفق عليه أن البحث العلمي الذي لا يضيف شيئا أو أشياء إلى الحقيقة المنظور فيها لا يمكن الاعتدادُ به، أو الإقرار بنتائجه المتوصَّـــل إليها.

ـ عجّت الرسالة بأخطاء نحوية وإملائية ولغوية وكتابية كثيرة، وحوت تعابير لا تستقيم مع اللغة العربية، ولا تنسجم مع سلامة قواعدها. وأدرِجت فيها حتى كلماتٌ من اللهجة العامية الدارجة على الألسن خارج النطاق المدرسي، ولم تُحترم فيها علامات الترقيم (علامات الوقف). وحملت أيضا أخطاء في تثبيت التواريخ. وقد أشانت هذه الأخطاءُ السطورَ التي حملتها، وألصقت بها عيوبا فادحة، وتسببت حتى في تشويه الفهم في بعض المواقع. وأغلب ظني أن الرسالة لم تراجَع من بعد الانتهاء منها مراجعة لغوية فاحصة ودقيقة. ومن المعلوم أن الاعتوار اللغوي وذهابَ جمال البناء التعبيري وتوعكَه هو من الأسباب التي تدفع بالقراء المجيدين إلى العزوف عن إكمال قراءة ما يُكتب أو ينشر.

ـ كُتبت فقرات من الرسالة في صورة إجابات ملتقَطة في حوار صحفي، وقُدمت كآراء خاصة تفضَّل بها المجاهد المترجَم له. ولم تهيأ لها السياقات التاريخية للأحداث التي عاشها أو عايشها المجاهد المعني، والتي جرت فيها، ولم تذكر الشروط المواكبة لها. ومن ثمّ تدمج الشهادات الحية الملتقَطة دمجا ملائما مع محاولة وصمها بالموضوعية بقدر كاف. ذلك لأن الذاتية والمزاجية تعملان على رسم صورة الحقيقة التاريخية على خلاف مظهرها الأصلي.

ـ ليس من الصّواب أن يبقى الباحث أسير من يترجم له، لأن هذا النوع من الأسر قد يضرّ بعمله. وقد وجدت أن بعض الجمل التي قالها المجاهد المترجَم له قد نُقلت كما نطقها، وأنا أعرف طريقته في الحديث وشيئا من قاموس كلماته التي يكرِّرها، وبما في ذلك بعض الجمل التي لا يصحُّ أن تكون مضمومة في بحث جامعي لتحصيل شهادة عليا.

ـ ابتعدتْ الاستنتاجات التي ذُيلت بها أبواب الرسالة ابتعادا تاما عن مضمون كل باب من أبوابها. ومن وجهة نظري، لا أراها قد بلغت المستوى المأمول حينما يسعى الباحث إلى إعمال فكره في ركام المعلومات التي عرضها، وتفكيكها وتحليلها لاستخلاص ما ينبغي أن يستخلصه منها من معان ودلالات تعتبر بمثابة رشاحة مركزة تلخّص ما تضمنه كل باب. وتسري نفس هذه الملاحظة على الاستنتاجات الختامية للرسالة المقدمة. ولا بأس من التذكير أن العبرة في الاستنتاجات لا تكمن في كثرة عددها وإنما تتوقف على غنى ذخائرها وعلى قيمتها التي يتزود منها القارئ وإن قلّت.

لا أخفي أن قراءة هذه الرسالة سبّبت لي صدمة!، وتأسّفت للحال الذي أصبح عليه البحث العلمي في جامعاتنا من الضآلة والضواة وقلة المؤونة. واستغربت كيف يضيع باحثٌ فرصة النهل حتى الارتواء من معين حي خصيب وثري. وكيف لم يستفد من مجاهد عاش في ولاية تاريخية لم يُكتب عنها سوى النزر القليل، وما يزال تاريخها يعج بالأسرار والخفايا والخبايا!.

لا يجوز أن نصبّ أجوام لومنا وتثريبنا على الباحثين الشباب الذين يقصرون أهدافهم على السهل القريب، وإنما نمدده ليتعدى إلى مؤطريهم ومن بعد ذلك إلى من يناقشون أعمالهم، ويقيّمونها ويصدرون عليها أحكامهم وهم يعلمون أن البحث العلمي لا ينبغي اختصاره في كتابة موضوع إنشائي. وتذكرت كيف كان الرقيُّ يحف بالأطاريح الجامعية من كل جانب في زمن مضى، وكيف كانت الصرامة حلية كل من المؤطر والمناقشين، ولا يتنازلون عنها حتى بمقدار بوصة واحدة، ولا يبارحونها ولو قيد أنملة.

علينا أن نعلّم طلابنا في الجامعات أن يكونوا طلاب علم قبل أن يكونوا طلاب شهادات، وأن نقر في أذهانهم أن الشهائد ما هي سوى برادع أحيانا، كما قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، رحمه الله.

لعله من المفيد لجامعاتنا أن تعيد الوزارة الوصية عليها النظر في التقدم للتعليم لمرحلة ما بعد التدرج، وأن تشدد على تقديم الأطروحات الجامعية المختلفة، وأن تؤلف لجانا في كل التخصصات لقراءتها قبل مناقشتها عدة مرات، وتقويمها. وأن تعاقب عقابا يؤلم المستهتر والمستهزئ بقيمة البحث العلمي. وأن تكافئ المُجدَّ متى وُجد. وأن تضع حدا لتمكين العاجزين من الحصول على شهادة باكالوريا من تحصيل شهادات عليا حتى في التخصصات العلمية!.

***

* لعله من المفيد لجامعاتنا أن تعيد الوزارة الوصية عليها النظر في التقدم للتعليم لمرحلة ما بعد التدرج، وأن تشدد على تقديم الأطروحات الجامعية المختلفة، وأن تؤلف لجانا في كل التخصصات لقراءتها قبل مناقشتها عدة مرات، وتقويمها. وأن تعاقب عقابا يؤلم المستهتر والمستهزئ بقيمة البحث العلمي. وأن تكافئ المُجدَّ متى وُجد. وأن تضع حدا لتمكين العاجزين من الحصول على شهادة باكالوريا من تحصيل شهادات عليا حتى في التخصصات العلمية!.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • محمد

    الطلاب والطلبة راهم ولادكم فرافقوهم في العلم حتى في الجامعة