الرأي

عام من الحراك “المبارك” والاختراق العظيم

حسان زهار
  • 1318
  • 4
ح.م

تماما كما أكدنا ذلك في مقالات طويلة وكثيرة، أن الحراك العظيم الذي انطلق في 22 فبراير من العام الماضي، كان في الحقيقة حراكين لا حراكا واحدا.. حراك نوفمبري أصيل، وحراك آخر دخيل.. لأنه بقدر عظمة انتفاضة الشعب، كان الاختراق عظيما.

الانقسام والاختراق، كانا واضحين بداية من الجمعة الثانية أو الثالثة، بعد ظهور الرايات غير الوطنية، وظهور علامات وتحركات مشبوهة، لزعزعة وحدة الحراك الشعبي، عبر مطالب ثقافية هوياتية، لم تكن أبدا في أجندة الحراك الأصيل من البداية، لكن جهات معينة أصرت عليها، وكان واضحا أن تنسيقا عالي المستوى يتم بين أجنحتها، داخليا وحتى خارجيا.

فما إن حلت الجمعة الـ12 من عمر الحراك “المبارك”، وقد استكمل الشعب تحقيق أهم مطالبه في إسقاط الخامسة، وتوقيف رؤوس العصابة والفاسدين، حتى بدأت الشعارات الجامعة بين الجزائريين جميعا تطيش وتتعارض، بين حراك يريد إنقاذ أركان الدولة من الانهيار، ولو بتجرع الحل الدستوري، وقد غلبت عليه المسحة النوفمبرية الباديسية الأصيلة، والتشبث الكامل بوحدة البلاد وانسجامها الحضاري، وبين تيار آخر مصر على الحل السياسي، والدعوة إلى المرحلة الانتقالية أو المجلس التأسيسي، وقد سبغ نفسه بصبغة عبرت عن عدائها الواضح لقيم نوفمبر.

ولم يكن الصراع مقتصرا على قضايا هوياتية ولا حول أسس الدولة الجزائرية، وإنما تحول الجيش الذي رافق الحراك، وضمن أن لا تسال قطرة دم واحدة، وقد تميز عن سائر الجيوش العربية الأخرى، بروح عالية من الوطنية وتقدير حجم المخاطر التي تهدد البلاد، إلى “عدو” من طرف جهات مشبوهة من داخل الحراك، اغتالت بشعاراتها الحاقدة، وحدوية الحراك الأصيل في بداياته، حينما كانت الملايين تصرخ في الشوارع “جيش شعب خاوة خاوة”، وتوزع الابتسامات والورود إلى قوات الأمن التي رافقت بدورها وأثبتت درجة عالية من الاحترافية والرقي في التعامل.

وطبيعي أن التغير المريب الذي مس كثيرا من الشعارات الحراكية الأصيلة، قد أدى إلى انسحاب أعداد هائلة من الحراكيين من الشارع، منذ الشهر الثالث للحراك، فقد خرجت الملايين بداية في الثاني والعشرين فبراير الماضي، لأهداف وغايات محددة ومعروفة، وقد كان على رأسها توقيف العهدة الخامسة للرئيس المقعد، التي تحولت إلى تحد سافر لمشاعر الشعب وكرامته، وكذا محاسبة العصابات التي استولت على مفاصل الدولة ومقدرات الشعب دون وجه حق ومحاكمتهم .. غير أن سقوط الخامسة ومحاكمة رؤوس العصابة، قد أغرى جهات أخرى إلى الرفع من سقف المطالب عاليا جدا، حتى وصلنا إلى شعارات عدمية تدعو لإسقاط النظام وإسقاط الجيش، ودعوات لتمرد قوات الأمن والانشقاق على سلطة الدولة.

وقد كان واضحا، أن الحراك الأصيل، كان يرفع مطلبا رئيسيا واضحا وهو تغيير النظام، ولم يكن يدور في خلد الحراكيين الأصلاء بداية، أي فكرة عن إسقاط النظام، أو اجتثاث جذوره كما تطور الأمر بعد ذلك، وهنا حدث الصدام بين جماعتين عظيمتين داخل الحراك.. وأدى للأسف إلى مواجهات عبر الشعارات داخل الحراك نفسه، ومواجهات أكثر سخونة في وسائل التواصل الاجتماعي.

وشيئا فشيئا، بدا الأمر كما لو أن حراكيْن غير متوازيين، يتحركان في اتجاهين مختلفين، حراك نوفمبري جسدته الشعارات العروبية الإسلامية الوحدوية الدستورية، وقد مثله بشكل كبير حراك مدينة البرج، ومعه عدد كبير من فعاليات المدن الداخلية، في مقابل حراك صومامي الهوى، إذا ما صدقنا توصيفات نجوم الحراك الجدد، وقد اتخذ من البريد والمركزي وقلب العاصمة مركزا له.

إلا أن طول مدة الحراك، واقتراب الاستحقاق الرئاسي، عجل بانفراط عقد الحراك بين التيارين الكبيرين داخله، فتوجه التيار الأول إلى صناديق الاقتراع اقتناعا منه بأنها الطريقة الوحيدة لإنقاذ أسس الدولة من الانهيار، وهو ما أكده الرئيس تبون حين قال إن الحراك أنقذ أسس الدولة من الانهيار، بينما أصر التيار الثاني على رفض الانتخابات كآلية للتغيير، مفضلا ما يعتقد أنها حلول جذرية عبر الدخول في مرحلة انتقالية ولو بالتعيين.

وبسبب هذا التباين في الرؤى، اخترقت قوى بعينها، الحراك المستمر، واستأثرت به لنفسها، إلى غاية اليوم، رغم إدراكها أن الحراك هو ملك لكل الجزائريين، ولا يوجد حر في هذه البلاد إلا وسار فيه يوما، لكن الأجندات التي جعلت من الأعداء الأيديولوجيين في التسعينات، شركاء اليوم في هدف إسقاط النظام، ما زالت تثير أسئلة في العمق، عن الأهداف الحقيقية لمن اخترقوا الحراك الأصيل، وما زالوا إلى اليوم يسعون إلى اختطافه.

ولا شك أن إقرار الرئيس تبون، الذي يعد نتاجا ملموسا للحراك المبارك، يوم 22 فبراير “يوما وطنيا للأخوة والتلاحم بين الشعب وجيشه من أجل الديمقراطية”، قد أخلط أوراقا كثيرة، كانت تخطط أطرافها للاستئثار به لوحدها واستغلاله أيضا للتفاوض على مكاسب ومغانم حزبية أو شخصية.

ففي النهاية، الحراك هو حراك الشعب، سواء من معارضين للسلطة الجديدة التي وصلت بعد انتخابات 12 ديسمبر 2019، أو مؤيدين لها، ولا يمكن لجهة أو دشرة أو منطقة أو ناحية أو تسجله باسمها في السجلات التجارية.

وسيسجل التاريخ، أن الحراك الذي بدأ عظيما ووطنيا وحدويا، قد اخترقته رايات ليست من شيم الاخضرار في لون راية الشهداء، وأن هذا الاختراق المقيت، ومهما كانت القوى التي تقف خلفه، هي من حملت معاول هدمه من الداخل، بعد أن نجحت في تفتيت تلاحم الجزائريين كجسد واحد، وهم يهتفون لبناء مستقبل واحد، وحرية تسع الجميع.

وسيذكر التاريخ أيضا، أن الأصوات الناعقة، وشعارات الكراهية والتخوين، كانت أشد على الحراك من مقاومة النظام لفكرة التغيير نفسها، وأن تشتيت الهدف الواحد الذي هو حرية الشعب وحقه في حكم ديمقراطي عادل، مارسته قوى غير وطنية، داست على الأهداف السياسية الجامعة، ورفعت رايات الهوية الزائفة، والتاريخ المشوه، والانتماء المفبرك داخل أكاديميات الاستعمار.

لقد كان عاما حراكيا عظيما بحق، عاما للوعي الحضاري الرائع والوعي الزائف الكبير أيضا.. عاما للسلمية والوحدة، لكنه أيضا عام الصراعات الموقوتة والاختراق العظيم كذلك.

هذا الاختراق الذي نشاهده كل يوم، هو الذي يجب أن يتوقف، كشرط أساسي في استمرارية مسيرة النضال الطويل، نحو ما تبقى من مطالب الحراك المشروعة، وعلى رأسها بناء دولة ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية كما حلم بها الشهداء بالأمس، ويسعى إليها أحفادهم الشرفاء اليوم.

مقالات ذات صلة