-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عبد الرحمن طواهرية.. انطفاءُ شمعة مُربّ قدير

عبد الرحمن طواهرية.. انطفاءُ شمعة مُربّ قدير

يتحدّث الناس بكلام مزخرف ومزين بالتنميقات عن القرابات، وتجدهم يذكرون قرابة الرّحم التي تدعى أيضا: القرابة البيولوجية، ويضعونها على رأس كل أنواع القرابات. ويضيفون لها صنفا آخر من القرابة، وهي القرابة الروحية التي تمتد أواصرها المعنوية والحسية بين المريد وشيخه، والمتعلم ومؤدبه، والجندي وقائده. ولست أدري كيف يرخون سدائل التجاهل على القرابة العلمية؟. وهي تلك القرابة النوعية التي تطوي المسافات الفاصلة بين طائفة من الناس نالوا تكوينا في تخصص علمي واحد، ووحدت بينهم المعرفة العلمية الواحدة، واشتركوا في مناهج تحصيلها إلى درجة تصبح فيها نظرتهم إلى الكون والإنسان والوجود متطابقة أو متشابهة، وتكاد تنعدم الفروق في طرائق تفكيرهم، وفي إطلاق أحكامهم على المشكلات والقضايا التي تطرح عليهم.

ما إن قرأت النعي المشؤوم الذي ينبئ برحيل المربي الأستاذ عبد الرحمن طواهرية المولود في الثامن ماي 1946م، ما أن قرأته من بعد صلاة يوم الجمعة السابع والعشرين ماي (2022م) حتى هزتني صدمة مرعشة. فقد أحسست أن واحدة من قراباتي العلمية أصيبت بفتق يصعب رتقه، وأن  امتدادي التكويني الجمعي اخترقه سهم قاطع، وخلف فيه جرحا ناعرا نازفا. وكيف لا يغشاني هذا الشعور و”البيولوجيا”، سيدة العلوم التجريبية والتطبيقية، جمعتنا حول حوضها تعلما وتدريسا وإشرافا عليها في الأقسام، وألفت بيننا تحت مظلتها الوارفة وإن باعد الزمن بيننا قليلا وفصلنا المكان طويلا.

إن انتساب الفقيد عبد الرحمن طواهرية إلى العلوم الحيوية هو انتساب تام، ونصادف في مناشئه الجغرافية الأول ما يشي بصدق هذا الرأي. فقد ولد بجوار قرية تسمى “القيقبة” واقعة في الأوراس الغربي الذي يضعف فيه الغطاء النباتي نسبيا من أشجار وشجيرات. واسم “القيقبة” مسلوخ من اسم شجرة “القيقب” L’érable التي تزرع، عادة، على جنبات الطرقات وقرب المنازل للاستفادة من ظلالها. وتتميز بأنصال أوراقها المسطحة التي تشبه راحة اليد، وتبرز من حوّافها أجزاء كالأصابع. وهي شجرة نفضية تبدأ في التعري مع هبوب أولى نسائم فصل الخريف. ولهذا النبات مكانته في كندا التي جعلت من ورقته ذات اللون الأحمر رمزا بصمته على علمها. ومن جانب آخر، فإن اسم مدينة “عين أزال” التي سكنها في صغره معناه: “عين الحديد”.  فكلمة “أوزال” باللهجة الشاوية يقصد بها الحديد. ولا يقرأ في اسمي هذين المكانين اللذين لامسهما الطفل عبد الرحمن طواهرية بقدميه، وهو طري العود في منطلق حياته، سوى تباشير تؤشر من بعيد لعنوان مسار علمي مستقبلي مكنون ومعلم. أفلا نجد في شجرة نبات القيقب وفي معدن الحديد رموزا معبرة عن علم الأحياء وعلم الحصلبة “الجيولوجيا’ المشكلين لجناحي مادة العلوم الطبيعية التي تخصص فيها؟؟.

كأغلبية أبناء جيله المحرومين، لم يستفد مترجمنا من تعليم منتظم في بداية عمره، وإنما درس دراسة فوضوية متقطعة تشتتت بين الكتاب القرآني والمدرسة الابتدائية المضطربة. ومع استرجاع الاستقلال الوطني، انتقل إلى مدرسة الكتانية بمدينة قسنطينة ليواصل تعليمه الإعدادي. أما المرحلة الثانوية، فقد قضاها في ثانوية ابن باديس بنفس المدينة في الفرع العلمي، وفي مقرّيها الأول والثاني قبل أن ترحل إلى مقرها الجديد بعد إكمال إنجاز بنايته. وبهذه الثانوية، عاش الإضراب الذي أطاح بمديرها السيد عجالي خير الدين. فلما ضاقت صدور طلبة الثانوية من تصرفات مديرهم المتعجرف وكلماته الجارحة العارية من الذوق الأدبي، انتفضوا ضده، وكسروا عصا الطاعة في وجه إدارته، وناصبوه العداء، وتمردوا عليه تمردا أسقطه من عليائه. وبسبب هذا الظرف الهائج، أوصدت المدرسة أبوابها لمدة شهر كامل، وتعطلت فيها الدراسة. ولم يعد الطلاب إلى الأقسام إلا بعد مجيء المربي الوقور الطاهر حرّاث مديرا جديدا.

بعد أن ختم حصوله على شهادة الباكالوريا بجزئيها الأول والثاني في سنة 1970م، التحق الطالب عبد الرحمن طواهرية بالمدرسة العليا للأساتذة. ولما كانت المرحلة تحفل بشعار تعريب التعليم وجزأرته في كل مراحله، استفاد من منحة جارية لمواصلة تعليمه الجامعي في سوريا الشقيقة.

وصل إلى جامعة دمشق متأخرا قليلا عن موعد انطلاق الدراسة، وبفضل مساعدة زملائه الذين سبقوه، تمكن من استدراك ما فاته من الدروس. وفي هذه الجامعة الشماء تعلم على أساتذة علماء مرموقين في علم البيولوجيا، ومنهم القامة الدكتور محمد أبو حرب، وزوجته التي كان الطلبة يلقبونها بـ”أم حرب” لشدة صرامتها وقوة صلابة عريكتها، والدكتور عبد الحليم السويدان المتخصص في علم الوراثة. وكان هذا الأخير والدكتور أبوحرب من فطاحل اللغة العربية وعضوين في المجمع اللغوي السوري، ومن كبار المساهمين في إثراء قاموس اللغة العربية بالمصطلحات العلمية العربية المبتكرة والمنحوتة.

بعد عودته من سوريا متوّجا بشهادة علمية عليا في البيولوجيا، اشتغل أستاذا في ثانوية عقبة بباب الوادي وفي ثانوية عبان رمضان بالحرّاش على التوالي. ثم عمل معيدا في جامعة باب الزوّار للعلوم والتكنولوجيا. ولما شرع المربي الكبير الأستاذ عبد الحميد مهري في تنفيذ فكرته الرائدة والمتمثلة في تأسيس مدرسة عليا لتكوين أساتذة معربين للتعليم الثانوي خاصة في المواد العلمية بالتنسيق مع كلية العلوم في جامعة بغداد، وجد في حماسته وصدقه ما صادفه في زميليه الأستاذين إبراهيم حمروش ومحمد لشهب وآخرين في بقية التخصصات كأستاذ الرياضيات أحمد وزاني، وجد فيهم عناصر مستعدة ويعوّل عليها في بعث هذا المشروع، وفي تثبيت دعائمه وتوطيد أركانه. واشتغلت هذه الكوكبة اللامعة في غيرة وطنية وعزم شديد أساتذة معاونين ومكفلين بالأعمال التوجيهية والأعمال التطبيقية إلى جانب الأساتذة العراقيين المحاضرين. واجتهدوا جميعا في إنجاز مطبوعات داخلية لمساعدة الطلبة.

لم نسمع أن وزارة التربية الوطنية التي كان الأستاذ عبد الرحمن طواهرية أحد أعمدتها قد كلفت نفسها لتعزية أهله وإخوانه، وذلك أضعف الإيمان. ولم نتعجّب لهذا الموقف المقرف الذي يعكس جحودا وبخلا في الاعتراف بتضحيات الرجال. ولكن من يعرف أن وزيرين سابقين للتربية وهما الدكتور علي بن محمد والدكتور عمر صخري قصدا مسكنه، وجلسا بين المعزين الكثر يكتشف طينة الفقيد ويقف على عنوان الدائرة التي ينتمي إليها.

عاشت هذه التجربة موسمين دراسيين اثنين هما موسما 76/77 و77/78، وأجهضت مكرا قبل أن تظهر أولى نتائجها وتأتي طلائع ثمرتها. واضطر ما يقارب من أربعمائة طالب الرحيل إلى جامعة باب الزوار لإكمال دراستهم. فبمجرد أن وقف المناوئون لتعريب الفروع العلمية في التعليم الثانوي على صدق وسلامة هذا المشروع، توجسوا منه خوفا، وشرعوا في نشر دسائسهم الحاقدة لتعطيله أو توقيفه في منتصف الطريق، واختلقوا خدعة تسمية الشهادة التي يتحصل عليها المتخرجون، والتي ستكون أقل قيمة من شهائد نظرائهم في بقية الجامعات. ولما قابل الطلبة الأمر بالرفض التام، مات المشروع في مراحله الجنينية. وهناك من الطلبة الذين عاشوا هذا المشروع من يشهد أن مستويات تحصيلهم كان أرفع من مستويات زملائهم في جامعة باب الزوار لما انتقلوا إليها.

بقي الأستاذ عبد الرحمن طواهرية أستاذا مكونا في معهد بوزريعة لإعداد أساتذة التعليم المتوسط مع بقية زملائه. وبعدئذ، رقي إلى منصب مفتش في مادة العلوم الطبيعية مكلف بالمعاهد التكنولوجية وبالإشراف على مفتشي التعليم المتوسط مع زميليه محمد لشهب ونورالدين علوي، رحمه الله. وخلال هذه الفترة، لم يمسك يديه على خدمة مادة تخصصه بكل ما منح من استطاعة وما أوتي من جهد، وساهم في تعريب بعض الوثائق المهمة منها كتاب العلوم الطبيعية الموجه إلى تلاميذ السنة الأولى من التعليم الثانوي في بداية ثمانينيات القرن الماضي.

أمام الحاجة إلى الرجال في مواقع القيادة، عيّن الأستاذ عبد الرحمن طواهرية مديرا للتربية في ولاية المدية التي قضى فيها أربع سنوات كاملة أظهر فيها قدراته في التسيير وفي التخطيط وفي مواجهة المشكلات بالحلول المناسبة. وبفضل أخلاقه التي تربى عليه واستحضاره لحالة البؤس والفقر التي ركب أهوالها في بداية حياته وانفتاحه على الآخر ورحابة شبكة علاقاته ونهجه منهجا تواصليا لا يعرف الانقطاع وقربه من حزب جبهة التحرير الوطني، وبمساعدة درجة الطيبة والإخلاص التي عهد عليها أهل المنطقة، استطاع أن يحقق حركة تنموية مشهودة في المجال التربوي بهذه الولاية، وأن يقرب المؤسسات التعليمية من المتعلمين، ويخفف من معاناة انتقالهم، ويزيح عن كواهل أوليائهم متاعب المصاريف اليومية الثقيلة، وأن يعين المعلمين والأساتذة وكل عمال القطاع ويلبي طلباتهم في مجال السكن بشكل أخص. ومكنته أعماله المشهودة من كسب مودة مرؤوسيه، ونيل ثقة رؤسائه. ووجد في هذه الموارد الدعم المعنوي الذي يحتاجه المسؤول الشريف والنزيه للمضي قدما. ورغم أن الإدارة قاتلة للفكر والإبداع والتجديد، إلا أنه لم ينس قيمة دوره التربوي الذي أبرزه ورعاه من خلال تشجيعه وتكثيفه للأعمال التكوينية بغاية تحسين مردود الأعمال الفصلية. ولكن، لما انتقل لتولي نفس النصب في ولاية سطيف، وحسب أحد المقربين من خلصائه، لم يجد المناخ الملائم والتربة المناسبة التي يبذر فيها بذور أفكاره التي يحركها الوفاء للتربية، واضطر أن يقصر مدة مكوثه فيها، وأن ينسحب بدل أن يعيش إمعة أو تابعا.

عرضت مناصب يسيل لها لعاب الانتهازيين الذين لا هم لهم سوى مصالحهم الشخصية ومقدار الاستفادة الذاتية على الأستاذ عبد الرحمن طواهرية عدة مرات، ولكنه كان يقابل العروض بالاعتذار والإعراض؛ لأنه من صنف الرجال الذي لا يقبل أن يكون قطعة جامدة لتزيين واجهة مخادعة تظهر ما لا تضمر. وكان آخر منصب تبوأه هو منصب مستشار لوزير التربية الوطنية.

لم نسمع أن وزارة التربية الوطنية التي كان الأستاذ عبد الرحمن طواهرية أحد أعمدتها قد كلفت نفسها لتعزية أهله وإخوانه، وذلك أضعف الإيمان. ولم نتعجب لهذا الموقف المقرف الذي يعكس جحودا وبخلا في الاعتراف بتضحيات الرجال. ولكن من يعرف أن وزيرين أسبقين للتربية وهما الدكتور علي بن محمد والدكتور عمر صخري قصدوا مسكنه، وجلسوا بين المعزين الكثر يكتشف طينة الفقيد ويقف على عنوان الدائرة التي ينتمي إليها.

رحم الله أستاذنا عبد الرحمن طواهرية المتواضع والخدوم الذي صقله الحرمان وفقر الصغر، وترك في ذهنه ندوبا أصبحت أكبر موجه له في حياته، وثقل كفة ميزان أعماله بالحسنات، ورزق زوجته وأبناءه وإخوانه وأخواته وأصدقاءه السلوان الرائع والمنسي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!