-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عثمان سعدي

جمال لعبيدي
  • 695
  • 0
عثمان سعدي

توفي عثمان سعدي، رحمه الله، يوم 30 نوفمبر 2022 وعمره 92 سنة. رحل عنا في هدوء كالشخص الذي ينام، كالشمعة التي تنطفئ. قمت بزيارته قبل بضعة أسابيع وكانت الموت زاحفة لا محالة، فوجدته طريح الفراش، يتغذى اصطناعيا. ومع ذلك ألقى عليَّ أبياتا شعرية ثم قال وعيناه تبتسمان حميمية: “شفت كيف تشتغل مليح.. الذاكرة أهمّ شيء”.

شاءت الأقدار أن نصاب، خلال أسابيع قليلة، بفقدان ثلاث قامات من الحركة الوطنية الجزائرية، ثلاثة رجال يمكن القول إنهم من “طينة واحدة”: د. صادق هجرس، الأستاذ السعيد شيبان ود. عثمان سعدي. إنهم رحلوا بعد عمر ناهز 90 عاما، قاطعين القرن، مولعين بنفس الحب، حب الجزائر، حب التحرر الوطني. في هذا الميدان بالتحديد، كان القاسم المشترك بينهم يتمثل في كونهم رجال فكر وعمل، مناضلين من الرعيل الأول، وفي نفس الوقت، كتابا وصحفيين. ومن يمعن النظر في مسارهم لا يسعه إلا أن يقف مذهولا أمام غنى حياتهم وتنوُّع نشاطاتهم. إنه جيل استثنائي بحق: هل سنشهد أمثال هؤلاء يوما ما؟ لا أدري.

تعرفت على عثمان سعدي غداة انتفاضة أكتوبر 88. كان الجو آنذاك مملوءً غبطة وآمالا عريضة رغم الجراح الغائرة التي طبعت تلك الأيام: الحزب الواحد أخلى المكان لتعدُّد الأحزاب وكل شيء كان يبدو ممكنا؛ الأحزاب السياسية غادرت السرية وسعادة التغلب على محنها والبقاء على قيد الحياة تغمرها؛ مناضلون لا يعرف بعضُهم بعضا -وإن كانوا من نفس الحزب- يتعانقون بتأثر شديد خلال اجتماعات أصبح بالنهاية من الممكن عقدها علنا.

في جامعة الجزائر كان الطلبة الدارسون باللغة العربية يعقدون تجمعا وراء تجمع، وبأعداد هائلة تبيَّن أن عهد جامعة الجزائر الفرنكوفونية قد ولى. لقد كانوا بالآلاف في المدرّجات، يطالبون بأن تأخذ اللغة العربية مكانها كاملا غير منقوص وأن تؤدي أخيرا الدور الذي حددته لها النصوص من الناحية النظرية.

جرى تنصيب عثمان سعدي في رئاسة تلك الاجتماعات، وبالرغم من تقدُّمه في السن بعد، فقد أبدى حيوية وحماس الشباب وظهر بمظهر الزعيم الطبيعي لتلك الحركة الناشئة. كان يجد بعض الصعوبة في تسيير تلك النقاشات الحامية، الجارية بين مثقفين في طور التكوين، والتي يفرغ فيها هؤلاء دون ترتيب شعورهم بالارتياب إزاء السلطات وغلّهم المتولد عن جروح التهميش الاجتماعي لنخب العربية في الأجهزة الإدارية والاقتصادية الواقعة تحت سيطرة النخب الفرنكوفونية وإدانتهم لهذه النخب وكذلك صعوباتهم في تحديد موقع القضية اللغوية ضمن مجموع التناقضات المتفجِّرة في آن واحد.

كنت آنذاك أفكر كثيرا بموضوع العلاقة القائمة في بلادنا بين النزاعات اللغوية والثقافية من جهة، والنزاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى. ولفهم هذه العلاقة بصورة أفضل، دأبت على حضور تلك الاجتماعات وتكلمت خلالها بلسان عربيٍّ متلعثم. ومع ذلك، وربما اعتبارا لتلك الجهود بالذات، كان الحضور يستمع لي باهتمام وحتى ببعض التعاطف. وعلى إثر تلك الاجتماعات، نشأت “جمعية الدفاع عن اللغة العربية”، برئاسة عثمان سعدي، والتحقت بها بصورة طبيعية.

لعثمان سعدي العديد من الخصال كان الثبات إحداها؛ فلقد كرس الجزء الأكبر من حياته للدفاع عن اللغة العربية والثقافة الجزائرية، دفاع بلغ أحيانا من الحدّة مبلغا كان يمكن أن يظهر صاحبه من خلاله على أنه متعصِّب و”طائفي” بل وعنيف حتى في أعين من لا يعرفونه.

 “احذر.. هذا متطرف”

تطوّع البعض بتحذيري من التعامل مع عثمان سعدي، قائلا “هذا عربي- إسلامي متطرف، بعثي”. لو كانت الأحكام المسبقة قاتلة لقضت على الكثيرين.

لقد اكتشفت عالما ضليعا بالتراث العربي– الإسلامي وبتراث البربر معا، فضلا عن إجادته للغة الفرنسية التي كان يوظفها في أبحاثه التاريخية واللغوية. وكما سبق ذكره، كان عثمان سعدي من صنف المثقفين الذين يجمعون بين النظري والتطبيقي، بين الإنتاج الفكري والنضال.

ترك المدرسة الفرنسية غداة مذابح الثامن من ماي 45، نال شهادة معهد بن باديس بقسنطينة في 1951، ثم البكالوريا في 1956 من مصر حيث التحق كطالب بجبهة التحرير الوطني وتولى، أثناء الثورة، الأمانة الدائمة لمكتب جيش التحرير الوطني بالقاهرة. بعد الاستقلال، شغل مناصب رسمية مختلفة: نائبا في البرلمان، سفيرا، عضوا باللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني، الخ… كل ذلك دون أن ينقطع عن الدراسة: شهادة الدراسات المعمقة من جامعة بغداد في 1976 ثم الدكتوراه من جامعة الجزائر في 1986. ترأس لجنة الإشراف العلمي لتحضير قاموس اللغة العربية الحديثة برعاية “الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية”، خلال الثمانينيات، ثم جمعية الدفاع عن اللغة العربية ابتداء من 1990 وحتى وفاته. ومنذ أن ترأس الجمعية، ابتعد عن المناصب الرسمية مهما كانت وتموضع في نوع من المعارضة الثقافية للسياسة الرسمية المتعلقة باللغة العربية، لأنه كان يراها عديمة الثبات ومشبّعة بالتناقضات والتراجعات أمام اللغة الفرنسية. لذا اكتست كلمة “الدفاع” أهمية كبيرة وأثارت جدالا واسعا، لكنه اعتبر أنها تعبِّر بالضبط عن الواقع وأن الاعتقاد بأن اللغة العربية مسيطرة في النظام السياسي والاقتصادي مجرد وهم. فكان يبدي، بالنتيجة، أقصى درجات اليقظة إزاء المحاولات، المباشرة وغير المباشرة، الهادفة إلى التقليل من دورها المكتسَب، كما تشهد على ذلك –مثلا- مشاركته في السِّجال الذي دار حول مشروع إدخال الدارجة على حساب الفصحى في التعليم الابتدائي.

ألصِقت بعثمان سعدي، طيلة حياته، تهمة “المتزمِّت للعروبة”، لكن الحقيقة غير ذلك. إنّ نشاطه الفكري يدل على أنه كان باحثا في تاريخ الجزائر، وفي مجال التفاعلات بين العربية والبربرية وأصالة تراثنا التاريخي ضمن المجال العربي؛ باختصار يشهد فكره على بحثه المتواصل حول الشكل التاريخي الذي انتهت إليه هويتنا العربية– البربرية. في هذا الإطار، كان عثمان سعدي يدافع عن الطرح القائل بانتساب تمازغت، من وجهة فقه اللغة، إلى اللغات الشامية (البونية، الفينيقية، العربية). لقد كان همّه الدائم، في الواقع، هو التوليف، لا الإقصاء. نجد الانعكاس الصحيح لهذه الاهتمامات في تنوع أعماله بين كتب ومقالات تاريخية وسياسية وبين مسرحيات وروايات وقصص، نذكر منها: “قضية التعريب في الجزائر” (بيروت، 1967)، “تحت الجسر المعلق“- مجموعة قصصية- (الجزائر، 1973)،”دمعة على أم البنين” –رواية- “عروبة الجزائر عبر التاريخ” (الجزائر، 1983)، “الأمازيغ عرب عاربة” (الجزائر، 1996)، “وشم على الصدر“- رواية– (الجزائر، 2006)، “معجم الجذور العربية للكلمات الأمازيغية” (الجزائر 2007)، التراث الشعبي والشعر الملحون في الجزائر لمحمد البشير الإبراهيمي، تحقيق عثمان سعدي، (الجزائر 2010)- “الجزائر في التاريخ” (الجزائر، 2011)، الخ.

الشاوي

قد تكون هويته الشاوية هي التي جعلته قادرا، وقد نقول أعدّته سلفا، لامتلاك هذه النظرة وهذه الإرادة الهادفة إلى توليف الهوية الوطنية. كان شاويا، شاويا قُحًّا، بالمعنى الذي نعطيه في الجزائر لهذا النعت، أي الأصالة والاعتزاز بالنفس والتوليف بين العروبة والبربرية على أكمل وجه. لم تكن هذه الهوية عند عثمان سعدي موقفا سياسيا أو إيديولوجيا وحسب، كما لدى البعض، وإنما كانت روحا تسري في كافة أعماله. ولشدة شغفه بالتراث الشعبي، على وجه الخصوص، فقد كان يتلذذ بإلقاء قصيدة من الشعر الملحون مثل تلذذه بإلقاء قصيدة للمتنبي سواء بسواء. كان على بيِّنة من أمره بالفعل.

بعبارة أخرى، يمكن أن نصف عثمان سعدي بالقومي، القومي الجزائري؛ فلقد قام، بصفته مثقفا، بجهد متواصل لتغذية هذه القومية بالشواهد التاريخية، من أجل إثبات تاريخها ضمن تطوُّر القومية العربية الحديثة.

كان مولعا باللغة العربية. بهذا الشأن، تعمَّد البعض في الأوساط التغريبية الجزائرية أن يرى في ذلك الحب وسواسا وعقلية طائفية، لكن هذا الرأي ما هو إلا دليل على جهلهم باللغة العربية. هل يوجد ما هو طبيعي أكثر من حب الإنسان للغته، لهذه اللغة الأدبية العظيمة؟ بل راح بعض هؤلاء المتغربين ينظر للطابع الأدبي للغة العربية نفسه على أنه نقطة ضعف. عجبا! ألا يعدّ امتلاك ثقافة ما للغةٍ أدبية بمثابة بلوغ منزلة رفيعة ومفخرة لأهلها؟

كان عثمان سعدي يستغرب هذه العداوة العبثية والوسواس المتجدد تجاه اللغة العربية، فكان يكتب بلا هوادة لإدانة شطط التيار الفرنكوفيلي الذي كان يسميه “اللوبي الفرنكوفوني”. ونلاحظ، في هذا السياق، أن الهجمات التي تعرّض لها كانت تختبئ أحيانا خلف الدفاع عن الهوية البربرية، بينما لم يكن هذا الدفاع، في واقع الأمر، سوى ورقة التوت التي تخفي جهل أصحابه باللغة العربية. حقا، كيف يمكن لإنسان أن يعادي لغة يتقنها؟ مهما كانت اللغة المعنية، فإننا نحبُّها بمجرد أن نتمكن منها.

عثمان سعدي كان يكتب مرارا وتكرارا لدحض الدعاية التي تستهدفه شخصيا. هكذا نشر رسالة مطولة بالفرنسية في جريدة “الوطن” (17 يناير 2010) يمكن ترجمة عنوانها كالتالي: “الانتماء للبربر لا يستلزم الانتماء للتيار “البربريست”. شرح فيها بأنه ينتقد البربرية وليس الهوية البربرية، لكن دون جدوى، كون محاربة الأحكام المسبقة شبه مستحيلة. فتواصلت الهجمات لأنها كانت تؤدي وظيفة هي بالتحديد دق أسفين بين العروبة والبربرية.

تفسير العداوة التي استهدفت عثمان سعدي بانتظام يكمن، ربما، في كون رؤيته تتجاوز موضوع اللغة بحد ذاتها، اللغة بمعناها الضيق. كان يرى أن تلك العداوة تخفي نزاعا سياسيا واجتماعيا، والدليل على أهميته يتمثل في محاولة إنكاره أو التقليل منه أو إخفائه. إن عثمان سعدي يعدّ من أوائل الذين أدركوا أن وراء النزاع اللغوي الرئيسي في الجزائر، بين اللغة العربية واللغة الفرنسية، يوجد في الحقيقة صراع بين المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من أجل الهيمنة على المجتمع. كان ينظر إلى هذا النزاع على أنه بمثابة استمرار، عبر هذا الشكل الثقافي، لدوام النزاع الاستعماري، فكان هو بالتالي يحمل قومية لغوية وثقافية تمدّد كفاح الحركة الوطنية: “يجب أن تصبح اللغة العربية لغة الشغل، لغة الخبز”، كما كان يحلو له قوله، مضيفا “عندئذ يزول النزاع من تلقاء نفسه”.

بالنسبة لمن عرفوه وقدّروه حقّ قدره، ترك عثمان سعدي، على غرار القامات الوطنية من جيله، فراغا كبيرا، بل بدأنا نشعر من الآن بوحشة لصوته الراعد ولفورات غضبه الصادقة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!