-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عجبًا لبلد يُمَجّد “الراي” ويُهمل نُخبَه العلمية

عجبًا لبلد يُمَجّد “الراي” ويُهمل نُخبَه العلمية
ح. م

قرأنا في نهاية شهر أوت أن وزارة الثقافة راسلت خلال مارس الفارط منظمة اليونسكو، طالبة منها إدراج أغنية “الراي” في تراث الإنسانية العالمي.

ذلك أن هذا الفن قد تمكّن من الانتشار وتجاوز حدودنا غربًا وشمالا ولذا صارت بلادنا تخشى أن يسجَّل هذا التراث باسم دول أخرى، وهي الحريصة على صيانة فننا وتقاليدنا وتراثنا الثقافي!!

 

“الراي” المبجَّل

والدليل على هذا الحرص أيضا أن الجزائر تنظم خلال أسبوع كامل في شهر أوت من كل سنة مهرجان “الراي” في مدينة بلعباس (بعد أن كان ينظَّم في وهران) ويؤم المهرجان مشاهير مُغَنّي “الراي” الذين تغدق عليهم وزارة الثقافة الأموال كما تغدقها على بعض أمثالهم في فنون موسيقية أخرى!! 

وسوء حظ “الراي” هذا العام في الجزائر أن الخزينة العمومية صارت شحيحة لما أصاب أسعار البترول من هوان فارتأت وزارة الثقافة “تأجيل” (الظاهر أنها استحت أو خشيت من استعمال لفظ “إلغاء”) المهرجان السنوي ووعدت بتنظيمه عام 2017. وقد تأسفت وسائل الإعلام المعروفة وتباكت على هذا “الوضع الكارثي” الذي راح ضحيتها “الفن والثقافة”!!!

نرجو ألا يظن القارئ بأننا من عشاق “الراي”، وإنما دفعنا فضولنا إلى الاطلاع على بعض أدبياته فقرأنا أن أحد صحفيي أسبوعية “الجزائر الأحداث” البارزين، السيد محمد بلحي، هو صاحب الفكرة الجهنمية التي أدت إلى النهوض بـ”الراي” في مطلع الثمانينيات حيث استطاع “تصديره” إلى فرنسا -لأن هذا الفن كان منبوذا في الجزائر آنذاك وفشلت صحيفته في الترويج إليه رغم جهودها المضنية. 

ومن ثمّ تبنّته الأوساط “الفنية” الباريسية لِما ينطوي عليه من عناصر انحلال “تكسر الطابوهات” الأخلاقية في البلد المصدر. فنظمت هناك أول مهرجان دولي لهذا الفن، واستقبلت أهله بالأحضان،  ونشرته في وسط فئة واسعة من المغتربين، وفتحت قنوات إذاعية في باريس تبثّ على مدار الساعة أغنية “الراي” لا غير!

والكل يذكر أن وسائل الإعلام المسموعة والمرئية لم تتجرأ عندنا على إسماع المواطن آنذاك تلك الأغاني ولا السماح له بمشاهدة هؤلاء المُغنين نظرا لما في كلمات أغانيهم من سوقية وبذاءة. فضلا عن المستويات الثقافية والدراسية لهؤلاء الفنانين التي تكشفها لغة تخاطبهم وسطحية أفكارهم وسِيَرهم وكلمات أغانيهم. 

ورغم ذلك يُقال أنه كان من بينهم “عباقرة” يستطيع الواحد منهم تأليف وتلحين وأداء أغنيتين خلال الأسبوع ونشرها في الأسواق “لتلبية حاجة الجمهور” حسب دعواهم!! وصار هؤلاء، شبانًا وشابات، نجوما في باريس ومرسيليا بفضل أغان مَطْلع أقدمها رواجًا “البيرة عَرْبية والويسكي ڤاوري (الجعّة عربية والويسكي إفرنجي)”… ثم ذاع صيتهم في بلادنا عند بعض الجمهور، وصار حال “الراي” كمن يخرج من النافذة ويدخل من الباب! وتبنّته عندئذ السلطات رسميا بعد “استيراده” وأحاطته بكل عنايتها!! يقول البعض المتهكمين: ما المانع أن نعيد استيراد ما كنا صدرناه؟!

 

التفريط في النخب العلمية

وبالموازاة مع هذا الاهتمام البالغ والتمجيد المبتذل لدى سلطاتنا لهذا الفن الذي لا يزال يستحي كثير من مواطنينا الاستماع إلى كلماته، نجد إهمالا كاملا للنخب العلمية من الشباب عندنا. ونضرب على ذلك مثالا بسيطا : منذ حوالي 4 سنوات أنشأت وزارة التربية ثانوية لها طابع خاص سمتها “ثانوية الرياضيات” وسجلت فيها أفضل التلاميذ من كل ولاية. واعتبر الكثير هذه الخطوة في حد ذاتها بالغة الأهمية وصفقوا لها وتباشروا بتداعياتها العلمية على المجتمع. 

وبطبيعة الحال فهؤلاء المتفوّقون من التلاميذ ليسوا مطالبين أثناء مشوارهم الدراسي بالتخصص في الرياضيات بل يمكنهم التخصص في كثير من العلوم الأساسية الأخرى ذات الصلة بالفيزياء والهندسة والكيمياء والإعلام الآلي، إلخ. والجدير بالذكر أن ثانوية الرياضيات ليست المؤسسة الوحيدة القادرة على مرافقة النجباء بل يمكن التفكير في بدء غربلة التلاميذ في كل ولاية ومتابعة النجباء منهم في عين المكان والعناية بهم منذ المرحلة الابتدائية.

نعتقد أن الحكومة (نقول الحكومة لأن الأمر يتعلق هنا بما يتجاوز وزارة التربية في جزء كبير منه) لو كانت جادة في هذه الظروف التي يشتكي فيها الجميع من تهاوي مستوى التعليم عندنا، نقول لو كانت جادة لعملت على جعل هذه الثانوية “مشتلة” يتخرج منها تلاميذ متميزون علميا، تتم مرافقتهم عن كثب – بكل الوسائل المادية والمعنوية – حتى نهاية دراستهم الجامعية وبداية مشاورهم المهني. وإلاّ كيف يمكن أن تعوّل البلاد مستقبلا على عبقرية هذا الطراز من الخريجين؟ أو أنهم يريدون الاتكال على عبقرية “الراي” للخروج من التخلف؟!

لكن ما يحدث أننا لم نلحظ أي عناية خاصة بهؤلاء التلاميذ في ثانوية الرياضيات من حيث التكوين المتميز (مثل اختيار أفضل الأساتذة والإداريين…) والنشاطات الثقافية والفكرية الموازية داخل الثانوية. وإذا كان الأمر يتعلق فقط بحصول التلاميذ على الباكلوريا بمعدل مرتفع فنعتقد أنهم قادرون على ذلك دون إعانة أحد.

وفضلا عن ذلك التهاون من قبل السلطات، ماذا نوّفر لهم بعد التخرج والحصول على الباكلوريا؟ ماذا تقترح الحكومة على هؤلاء النجباء؟ لا شيء! فهم يسجلون في أي جامعة أو مؤسسة، شأنهم شأن الآخرين من طالبي العلم.. لا امتياز لهم على بقية الطلبة من حيث منحة الدراسة أو الغرفة الجامعية أو الإطعام أو العناية المعنوية. وهكذا، إذا تميزوا قبل الباكلوريا فذلك التميّز سيذهب سدى في الجامعة ويصبح الجميع سواسية في المستوى التحصيلي المتدني. وحتى إن تفوّقوا فتفوقهم سيكون قضية نسبية.

ما المانع أن تفتح لهم وزارة التعليم العالي قسما خاصا (قبل الماستر على الأقل) في إحدى الجامعات، وجناحا يليق بمقامهم في حي جامعي لتحفيزهم على المضي قدما في التفوق ويتكوّنون تكوينا متميزا يجعل منهم لَبِنات يمكن للبلاد أن تعوّل عليها في بنائها؟

من جهة أخرى فإن المبادرات الجمعوية والخاصة يمكنها التكفل بجزء من هذه المهمة. وهنا أيضا يمكن أن نضرب مثالا على ذلك: خلال هذا الصيف بادر أحد الزملاء العاملين في الخارج بتنظيم مدرسة صيفية سماها “مخيم الرياضيات” في ولاية ساحلية لمدة نصف شهر أو يزيد.. جمع فيها حوالي 20 تلميذا وطالبا من ألمع تلاميذ القطر في مادة الرياضيات جاؤوا من مختلف المناطق. 

وبعد أن كانت له وعود مفادها أن السلطات المحلية بالولاية ستساعده في موضوع الإيواء والإطعام وتوفير أقسام في مؤسسة تربوية اتضح في آخر لحظة أن تلك الوعود كانت كلها وعود عرقوب. وما كان على هذا الزميل إلا أن طرق باب الخيّريين من المواطنين في المدينة فأسكنوا طيلة الورشة التلاميذ في شققهم. كما وفروا لهم أقساما في مدرسة خاصة لتكون مكان نشاطات الورشة. وتبرّع آخرون بوجبات الغداء للمشاركين في الورشة! 

وهكذا، بعد أن كادت تلغى الورشة حققت بفضل هَبَّة الخيّرين نجاحا باهرا. وكان لهذه المبادرة صدى طيب لدى عديد الزملاء حيث أنارت السبيل لمن يريد الإسهام في العناية بنخبنا. وهذا أمر مطلوب نظرا لتخلي السلطات العمومية عن هذا الموضوع لحد الساعة.

كيف لا نتكلم عن “تخلي” السلطات، وهي تلعب دور المتفرّج في هذا الباب… وكأن الأمر لا يعنيها ولا يهمها إن تفوّق زيد أو هاجر عمرو إلى حيث يجد العناية والتبجيل. ولذا نسأل: من هو المسؤول عن تهجير النخب العلمية؟ أليسوا هم أولئك الذين يمجّدون اليوم “الراي” ومن سار في ركبه؟! أليس من حقنا أن نقول، والموسم الدراسي قد حلَّ، بأن أضعف الإيمان أن يحيط هؤلاء الساسة نخبَنا العلمية من الشباب بنفس العناية التي يحيطون بها “شبان الراي”؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
10
  • بدون اسم

    كيف تريد ان يهتم بالعلم و اهل العلم من لم يضع قدمه يوما في الجامعة

  • عبدالقادر المواطن التعبان

    الحقيقة مرة ومؤلمة الاالحق يجب ان يقال باننا في زمان التيهان اين اصبح لايفرق بين الحلال والحرام والحق والباطل والسلم والامان والظلم والعدوان ان كان في الجزائر اوفي بلادالمسلمين وخاصةالعربان لانهم انبطحوامن دون قيدولاشرط مع ذل وهوان لدول الاستعمارحتى دمرت بعض الاوطان.العناية الساميةللنظام اليوم هو فقط لمن يحسن العب بالجلد المنفوخ( بلون او مزود اوكما تسمى الشكة) والذين يبيعون الريح والكلام القبيح ويقبضون مقابله دولار واورو صحيح اما العلماءوالنجباء فمصيرهم التهميش والترييش ويدفعونهم الى اخذالخشيش..

  • رشيد

    بورك فيك استاذ
    امة تمجد الغناء والشطيح وتمنح الماجنين اعلى النعوت والشارات وتهين العلم واهله . ماذا تنتظر منها غير الانحطاط الاخلاقي والاجتماعي والاقتصادي و....

  • برهان

    مقال جميل ،لكن اظن ان السلطة تنظر بمنظارين فتعاملها مع الراي لا يخلو من العمل السياسي وهو ارضا وخدمة المشروع الفرنسي الذي مكن الراي ومغنييه حتي ان فرونسوا متران استقبل الشاب خالد وكرمه وهدي له سيارة فاخرة و ربما اكثر من ذلك اما مشروع تكوين النخبة والاهتمام بالعلم فلا تري فيه السلطة فاءدة سياسية لذلك اقول لكم الله يا اهل العلم فمن في السلطة لا يؤمن بالعلم والعلماء بل فقط في من سيمكنه من السلطة حتي وان كان ابليس

  • said

    أين هذه النخب العلمية التي تتكلم عنها, الشيئ الوحيد الذي إستطعنا تصديره بعد البترول هو الراي . ويكاد الشيئ الوحيد الذي تعرف به الجزائر . وتريد تحطيمه

  • soufi

    من فضلك يا أستاذ أن تصحح كلمة في العنوان و هي تباًّ بدل عجباً لأن البوار و الخسران كل الخسران لزمرة شعب تتعاطى الفسق و الفجور و العصيان و إرضاء الشهوات بدل تعلم اللغات و التقنيات و آخر الإبتكارات و التكنولوجيات و أمهات العلوم و الأدبيات ، و تقول إنه تراث وفن بل إنه مفسدة العقول و النفوس ،فاتقوا الله يا إخوان و لا تنساقوا إلى عفن نتن و اقبلوا على العلم و الحكمة و الآداب الحسنة، اللهم أهدنا إلى سواء السبيل .

  • سليم سليم

    شكرا استاذ على نصيحة اولي الامر ولكن تأكد مازلنا نحلم بافكارك ان يوجد لها الله مخرجا على ايدي ولاة امورنا ويعلموا ان الامر لفائدة الجميع مازالت مقالاتك منذ سنوات عن التعليم الناجح في فنلندا نحلم بها في بلادنا

  • جزائري

    شكرا للاستاذ على المقال مع افتتاح السنة الدراسية لكل الاطوار. نظام الحكم انتقل من سياسة تصفية الخصوم (لم تعد تتماشى مع روح العصر) الى سياسة الاحتواء. احتوى "الراي" وغض عنه الطرف، كي لا يتحول الى منبر سياسي يقض مضجعه بعد انتشاره عالمياً ؛ بنفس الطريقة احتوى المعارضة السياسية بكل اطيافها...الى ان استوزر مثلاً خليدة تومي في الثقافة! هذا يدل ان "فلسفة" النظام هي البقاء بأي ثمن. تعامل الحكومة مع تلاميذ ثانوية القبة دليل قاطع على ان التفوق العلمي ليس من اهتماماتها، بل لا يخدمها. "كاين البترول" !

  • عبد الحفيظ

    موضوع يحتوي على أفكار جيدة ... إقرأها يا سيادة رئيس الجمهورية وسيادة الوزير الأول فليست الفائدة في تغيير الكتب كل مرة تحت مظلة تغيير المناهج و .......!! ولكن الفائدة في الإهتمام بالتلميذ خاصة التلاميذ المتفوقين .. كما تفعلون مع ما يسمى الرأي كما قال صاحب المقالة . هذا الرأي الذي أتلف رأي أبنائنا منذ مجيئه . فكثر الفساد بكل أنواعه وكره التلاميذ والطلاب الدراسة ... ألا تبحثون عن الأسباب الحقيقية ..

  • محمد

    شكرا للاستاذ..لكن نرى ان الراي موروث ثقافي و ترفيهي محلي لابد من العناية به و نقصد راي احمد وهبي و بلاوي الهواري و كلام شبابي محترم موزون يحترم سامعه و من لا يسمعه..فالمبادرة بتصدير الموروث الانساني يجب ان يمر بتصفية "الراي" من "بلاراي"..اما الرياضيات فهي لاصحاب العقول لا القلوب الرمنسية و الرهيفة..فالحل عندهم بتفكيرهم اللاعادي من ايجاد حلول بتصدير قدراتهم الفكرية في كتيبات و دواوين و اقراص حتى يعم الخير..ولابد من خطوة اولى و هم مشكورون على المبادرةالتي تؤسس لفكر التطوع في تعليم الاخر ...