-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عصر الأطلسي ووارسو

عمار يزلي
  • 785
  • 0
عصر الأطلسي ووارسو

عندما أقدم المعسكر الاشتراكي قبل 67 سنة، وفي مثل هذا اليوم الـ14 من ماي 1955 على تأسيس ما سُمِّي وقتها بـ”معاهدة الصداقة والتعاون المشترك”، بالعاصمة البولندية وارسو، والتي اختصرت فيما بعد تحت اسم “معاهدة وارسو”، كان الحلفُ الأطلسي، المعروف بمختصر “الناتو” الذي أسِّس في  الرابع من أبريل 1949، قد مضى على تأسيسه 06 سنوات، مما دفع دول التكتل الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي إلى إنشاء كيان منافس اقتصاديا وعسكريا؛ بدأ اقتصاديا، ثم أنشأ مظلة عسكرية للتعاون والدفاع المشرك.

كل هذا كان نتيجة حتمية للحرب العالمية الثانية التي قسمت العالم المقسم أصلا قبل ذلك إلى ثلاث كتل أو عوالم: العالم الأول، الذي يمثله العالم الرأسمالي الغربي، والعالم الثاني الذي نشأ وتطور من رحم الثورة البلشفية الروسية وانضم إليه فيما بعد التوسع السوفياتي غربا كل من بلغاريا وألمانيا الشرقية وبولندا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا والمجر، ثم عالم ثالث غير منتم للتكتلين وينتهج نموذجا تنمويا غير منظم سُمّي بدول عدم الانحياز.

ما يهمنا في هذا الصدد اليوم هو هذا الوضع الذي يشبه على حد ما الوضع ما بعد الحرب العالمية الثانية والذي قد تنجر عنه تبعات جيوسياسية غير مسبوقة؛ فالحرب العالمية الثانية أصلا كظاهرة ألمانية انفجرت تحت شعار قومي وطني شوفيني مثلها مثل القوميات الأخرى التي تأسست على آثارها دول أوروبا كلها إثر تحررها من الإرث الروماني. ألمانيا المتضررة والمهزومة خلال الحرب العالمية الأولى، وجدت في القومية الاشتراكية الممثلة في الحزب النازي، المتكأ الذي تعتمد عليه على شحذ سكاكين الانتقام لهزيمتها المذلة، وهو نفس ما يحدث اليوم تقريبا لروسيا التي تشعر أنها أذِلت بعد 1991، رغم أنها كانت هي رأس الحرب ونهايتها في الدفاع عن أوروبا، لا بل العالم كله، مع ذلك تجد نفسها مستهدَفة وقتها واليوم أيضا، في تصورها، من طرف تحالف دول الغرب بزعامة الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها.

دول الغرب الأوروبي التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمَّرة، لكن بمساعدة الولايات المتحدة عبر مشروع مارشال الضخم لإعادة إعمار ألمانيا ودول أوروبا المتضررة، كان قويا ولافتا، فالاقتصاد الروسي المتضرر من الحرب والذي كان أكبر المتضررين على الإطلاق، لم يكن اقتصاده من غير العسكري بذلك التطور الملفت، بل على العكس كان يعاني من مشكلات كثيرة هي نفس المشكلات المعروفة في النمط الاشتراكي الذي جرَّبناه عندنا وجرَّبته عدة دول: مركزية، بيروقراطية، نوموكلاتورا ضيِّقة الأفق، خنق للحريات في الإبداع والرأي والتعبير والإنتاج والتسويق، تضييق على القطاع الخاص وحرية الملكية الفردية، كل هذا كان عائقا للاتحاد السوفياتي وكل الدول التي اتخذت من النموذج الاشتراكي نهجا تنمويا سياسيا باسم “الاقتصاد السياسي”.

أمريكا، على العكس، استفادت من الحرب العالمية الثانية، كما تريد أن تستفيد من حرب أوكرانيا، وهذا بفضل مرونة نظامها الاقتصادي وشركاتها الخاصة الضخمة. كما أنها لم تتضرر من الحرب لبعدها الجغرافي. استقواء الولايات المتحدة واستفادتها البراغماتية من اقتصاد الحرب مكَّنها من أن تساهم بقوة في إعادة بناء أوروبا وتسيُّدها عليها، بنفس الطريقة حاول الاتحاد السوفياتي أن يفعل ذلك مع بعض دول الجوار في حلف وارسو، لكنه لم يكن بالقوة الاقتصادية لمنافسة المدِّ الرأسمالي الغربي، على الرغم من القوة العسكرية للحلف، خاصة النووية منها، والتي بقيت مجرد قوة ردع لا قوة استعمال، والكل يعرف حدود اللجوء إليها.

اليوم، نكاد نكون في وضع مماثل: الحرب في أوكرانيا، ستغيِّر حتما المعادلات، وليس مستبعدا أن ينشأ تكتُّـلٌ اقتصادي بمظلةٍ عسكرية لن تكون كل الدول السابقة عضوا فيها، بعد أن تكون قد انتقلت إلى الجهة المضادة في الحلف الأطلسي، بل بمكوِّنات جديدة على أساس تعاون اقتصادي مع الصين والهند وإيران وباكستان ومع دول أخرى مجاورة لروسيا اليوم أو بعيدة في أمريكا اللاتينية. كما أنه ليس مستبعدا أن تكون تركيا عضوا فيها، رغم أنها اليوم عضو في الناتو، لكن ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي.

كما سنشهد هجراتٍ استراتيجية لبعض الدول باتجاه التكتلين، هذا إذا بقيت الأمور في حدود المناورات الاقتصادية والسياسية من دون أن تنزلق إلى حرب مدمرة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!