-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

علماء بأسماء مستعارة!

علماء بأسماء مستعارة!

عودنا الفنانون وفئة من الأدباء العرب والعجم على اختيار أسماء مستعارة تضفي لمسات من الجمال ينمّقون بها صورهم التي يَظهرون بها للمُشاهِد أو المستمع أو القارئ. وهذا ما لا نجده بصفة عامة عند العلماء المختصين في العلوم الدقيقة ونحوها، لأن من سيحكم عليهم لن يقيّم بهاء الطلعة وجمال الاسم وعذوبة الصوت بل سيقيّم عمق أعمالهم وأفكارهم دون سواها. ومع ذلك ثمة من هؤلاء العلماء من أخفى اسمه الحقيقي لأسباب متعددة واختفى وراء اسم مستعار.

من إخوان الصفاء إلى نيكولا بورباكي

لعلّ أول من وضع مؤلفات جادّة باسم مستعار هم الجماعة المعروفة بإخوان الصفاء، وكان ذلك خلال القرن العاشر الميلادي. ويبدو أن هدفهم الأساسي كان التوفيق والتقريب بين الدين والفلسفة والعقل. ومع أنهم كتبوا في شتى العلوم، منها الرياضيات، فقد أخفوا أسماءهم -حسب من حققوا أعمالهم- خشية ردود الفعل العنيفة ضدهم، والدليل على ذلك أنهم وُصفوا بعد ظهور أعمالهم بالزندقة والإلحاد لدى البعض. وفي مطلع القرن العشرين، حذت حذوهم جماعة من الشباب الرياضياتي الفرنسي ذاع صيتهم فيما بعد لدى جميع الرياضياتيين في العالم، وهم الجماعة التي أطلقت على نفسها الاسم المستعار نيكولا بورباكي Nicolas Bourbaki.

هناك بعض الجوانب في تشكيل هذا الفريق لازالت غامضة إلى اليوم، لكنه من المؤكد أن الفريق ظهر نحو عام 1935 في فرنسا، ويبدو أن المبادر إلى إنشائه هو أندري فاي André Weil (1906-1998) اليساري المتطرف الذي عانى الكثير خلال حياته. ومن طرائف حياته المثيرة أنه لم يلتحق بالخدمة الوطنية في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، وفرّ إلى العاصمة الفنلندية هلسنكي.

فكان آنذاك ملاحقا في نفس الوقت من 4 بلدان: السلطة الفنلندية التي سجنته لأنها رأت فيه جاسوسا يعمل لصالح ستالين في الوقت الذي كان فيه هذا الأخير يرمي هلسنكي بقذائفه الثقيلة. وكانت فرنسا تلاحقه أيضا كعاص فرّ من أداء الخدمة الوطنية وسجنته بسبب ذلك. كما أن ستالين كان يلاحقه بعد أن لجأ الزعيم تروتسكي Trotsky (1879- 1940) إلى شقة أندري فاي بباريس خلال فراره من حكم ستالين ومناهضته لسلطته. وفي تلك الأثناء كانت شرطة هتلر الألمانية تبحث عنه في هلسنكي بسبب إيديولوجيته اليسارية المناوئة للنازية. ومع كل ذلك، استطاع النجاة والبقاء على قيد الحياة حتى وافته المنية عام 1998 بعد أن حمته جماعة سرية ونقلته إلى الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية!

وإذا قارنا فريق إخوان الصفاء بفريق بورباكي نجد كل منهما قد وضع قواعد للانضمام إلى المجموعة. ومن شروط بورباكي أن يغادر الفريق كل عضو تجاوز 40 سنة، ويتعيّن عليه الكتمان وعدم البوح بأسماء المنتسبين إلى الفريق. ورغم ذلك، وبمرّ الزمن، عُرف تقريبا جميع من شارك في تأليف موسوعة بورباكي. وما كان يجمع أعضاء الفريق ليست الإيديولوجية السياسية -إذ كان منهم اليميني واليساري- بل كانت تجمعهم الرغبة القوية في كتابة الرياضيات على أسس متينة لم تعرفها من ذي قبل. ويعلم كل من يلمّ بالرياضيات أن أساسها الأول ليس متينا بالمستوى الذي يتصوّره السواد الأعظم من الناس : مهما كانت قواعدها فهي لا محالة مبنيّة على مُسَلَّمات غالبا (وليس دائما) ما تكون بديهية يتقبلها العقل دون الحاجة إلى برهان! وميزة الرياضيات أن أيّ نتيجة لا تحترم تلك المُسلَّمات، في أبسط دقائقها، لا تُعَدُّ نتيجة سليمة أو أن البرهان الذي أوصلنا إليها غير سليم. ومع ذلك يُسمح لصاحب النتيجة إدراجها تحت مُسلَّمات مخالفة، وقد تصبح آنذاك صحيحة وفق المُسلمات الجديدة !

ذلك كان هاجس فريق بورباكي وأعماله التي سمّاها أصول الرياضيات على وزن عنوان كتاب الأصول المنسوب إلى الإغريقي أقليدس، المتوفى بالأسكندرية المصرية والذي كان حيًا حوالي 3 قرون قبل الميلاد. وقد نجح الفريق خلال نصف قرن من العمل في تعميق المفاهيم الرياضية ورفع شأن فرنسا في هذا الحقل، ولا شك أن أعماله وتأثيرها قد أسهم في جعل فرنسا تحتل المرتبة الثانية عالميا في البحث الرياضي.

والأسماء المستعارة الأخرى؟

وهكذا نرى أن هدف إخوان الصفاء وبورباكي كان نبيلا. وقد واصل آخرون في استعمال الأسماء المستعارة، ولكلّ دوافعه. ومن الصعب التدقيق في كل منهم : فماذا نقول مثلا في أحد الباحثين الرياضياتيين كان وضع اسم كلبه كشريكه في التأليف! هل هو تزلّفًا للكلب أو استهتارًا بالناشر والقارئ أو مزحة سيئة الذوق؟! وماذا عن الرياضياتي دورون زيلبيرجر Doron Zeilberger -من جامعة روتجرس Rutgers الأمريكية- الذي عوّدنا منذ مطلع الثمانينيات على نشر بحوثه بمعية المسمى شلوش ب. إخادquot; Shalosh B. Ekhad. ومن هو هذا المؤلف الثاني؟ إنه جهاز الحاسوب الذي يستعمله زيلبيرجر. ولماذا اختار هذا الاسم؟ لأن الحاسوب من طراز 3B1 فترجم ذلك إلى اللغة العبرية (بالعبرية شلوش=3 وإخاد=1)!

ومن يمكن أن يتفطن إلى الرياضياتي الذي وقّع أبحاثه عام 1979 باسم G. W. Peck … فبعضهم قال مازحا أن الأمر قد يتعلق بأحد حكام ولاية ويسكنسن الأمريكية الذي يحمل نفس الاسم واللقب. والواقع أن هذا الاسم المستعار يشمل 6 باحثين في الرياضيات، وكل حرف من هذا الاسم يشير إلى الحرف الأول لاسم من أسماء هؤلاء المجموعة. وماذا عن المؤلف D. P. Parent؟ إنه وضع كتابا بالفرنسية من أشهر الكتب في نظرية الأعداد بعنوان (Exercices de théorie des nombres) عام 1978، صدّره العالم الفرنسي الشهير في نظرية الأعداد شارل بيزو Charles Pisot (1910-1984). وقد تُرجم الكتاب إلى الأنكليزية عام 1984، وعندما كان أحد العلماء يضع اللمسات الأخيرة على مقدمة النسخة الأنكليزية، توفي شارل بيزو فأهدي له هذا العمل الذي يضم أكثر من 500 صفحة، وكُشف في تلك النسخة عن حقيقة الاسم المستعار D. P. Parent إذ يختفي وراءه 12 رياضياتيا شاركوا في تأليف الكتاب!

لا شك أن الكشف عن حقيقة الاسم المستعار في صفحة الغلاف لهذا الكتاب راجع إلى القوانين الحديثة التي تربط دور النشر بالمؤلفين. فمن القوانين السارية في كبريات دور النشر العالمية أن نسجل في ظهر صفحة الغلاف الداخلية اسم المؤلف وتاريخ ميلاده. وهذا حتى تُبنى على هذه المعلومة حقوق المؤلف عند الضرورة. ولذا صار من الصعب الآن التعامل مع النشر بأسماء مستعارة.

من الواضح أن القيود على الناشر والمؤلف –سيما في المجال العلمي- تزداد يوما بعد يوم صرامة في ظل حماية الملكية الفكرية لما ظهر في الساحة من ممارسات تمس بأخلاق العلم والعلماء حتى صارت الحدود بين الشرعي واللاشرعي في هذا النشاط متداخلة أحيانا. وما زاد الطين بلة في العصر الحديث هو تكاثر الأدوات التكنولوجية التي تسهل عمليات الغشّ والاحتيال والسرقة العلمية.

وما عكّر الأجواء، أنه قبل عهد ليس ببعيد، كان كبار المؤلفين في مجال العلوم -وبصفة خاصة الرياضيات- لا يلتفتون إلى الجانب التجاري والربحي. أما في الوقت الراهن فمن الصعب الفصل بين الإنتاج العلمي والمعرفي والترقيات وبين التجارة. وهكذا، إذا استثنينا بعض الحالات، فإننا نلاحظ أن استعمال الأسماء المستعارة قد اندثر في البحوث الأكاديمية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • مجيد نورال

    أظن أن اسمهم "إخوان الصفا" و ليس "إخوان الصفاء"

  • د. قاسمي العيد

    البعض حتى من الاكاديميين يعتقد ان ستيدنت اسم حقيقي !

  • بن طالب

    وفي زمن الخيانة العربية المجلجلة والفضيحة والعار والشنار العربي الاكبر والاخطر علي امتنا العربية والاسلامية علي السواء وفي زمن بيع الشرف والكرامة والرجولة العربية اصبح اسم السلام والانفتاح العربي علي الصهاينة اليهود المحتلين لارض العرب فلسطين مشاعا وبديلا لاسم الخيانة والانبطاح والاستسلام والجبن والركوع للاعداء -امريكا الصليبية والصهاينة المحتلون المغتصبون -. السلام عوض الخيانة والتطبيع يا للعار