الرأي

علِّموا أولادَكم كُرْه فرنسا

ناصر حمدادوش
  • 10345
  • 19
ح.م

لا تُخفى الدّوافع الدّينية ذات الشّحنة الصّليبية والرّوح المسيحية للاحتلال الفرنسي للجزائر منذ 1830م، والتي تمتدّ جذور هذه الحملة الدّينية إلى الحروب الصّليبية العالقة منذ القرون الوسطى، وبالرّغم من الثّورات الشّعبية التي شهدتها أوروبا -ومنها الثورة الفرنسية سنة 1789م- ضدّ رجال الدّين، وبالرّغم من تراجع الكنيسة في حكم أوروبا إلاّ أنّها لم تقع قطيعة كلّية معها، وبقيت ذات هويّة مسيحية، وخاصّة عن طريق الإكليروس وإعادة الاعتبار للمسيحية الكاثوليكية المرتبطة بمقر البابوية بالفاتيكان بروما، وهو ما أحياها وأجّج الرّوح الصّليبية للاحتلال بمرافقة رجال الدّين المسيحي للقادة العسكريين في حملتهم على الجزائر، على اعتبار أنّ الأبعاد العقائدية هي أشدّ العوامل التصاقًا بالوجود والمقاومة والثورة.

وبالرّغم من الأهداف السّياسية والاقتصادية للاحتلال الفرنسي للجزائر إلاّ أنّ الهدف الدّيني كان حاضرًا بقوّة، فقد صرّح الملك شارل العاشر يوم 2 مارس 1830 بقوله: (إنّ العمل الذي سأقوم به ترضية للشّرف الفرنسي سيكون بمساعدة العليِّ القدير لفائدة المسيحية كلها)، وما صرّح به وزيرُ الحربية الفرنسي (تونير) بأنّ الحرب الصّليبية على الجزائر “ضرورية وممكنة”، قائلاً: (إنّها حربٌ صليبية هيّأتها العناية الإلهية لينفّذها الملِك الفرنسي الذي اختاره الله ليثأر من أعداء الدّين والإنسانية)، ويقصد المسلمين. ولا يوجد في الجزائر إنسانٌ لم يعانِ من جرائم فرنسا، ولا يوجد مكانٌ بالجزائر لم يتلطخ بجرائم فرنسا، ولا توجد قطعةٌ من زمان لم تتلوّث بجرائم فرنسا منذ بداية الاحتلال سنة 1830م إلى ما بعد الاستقلال سنة 1962م وإلى الآن. ولعلّ من أهمّ الواجبات التاريخية اتجاه الذّاكرة الوطنية هو الإحصاء الشّامل والتوثيق الدّقيق لهذه الجرائم طيلة هذه الحقبة السّوداء من تاريخ الجزائر، والتي هي من أبشع المراحل التاريخية التي مرّت بها، وقد انتهكت فرنسا اتفاقيات القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وأعراف الحرب ونظام تحمّل المسؤولية الفردية والجماعية وعدم احترام القواعد الإنسانية في النّزاعات والحروب، ومنها: عدم احترام مبدأ التمييز بين المدنيين والعسكريين في الحرب، وعدم احترام مبدأ حظر الآلام التي لا مبرّر لها، وعدم احترام مبدأ الاحتياط أثناء الهجوم، وعدم احترام مبدأ حظر الهجمات العشوائية، وحظر المساس بالحقوق المدنية، ووجوب احترام الطابع المؤقت للاحتلال، إذ لا سيادة له على الأرض المحتلة.. وغيرها. لقد حاولت فرنسا وقف تيار التاريخ في الجزائر، فتنوّعت جرائمُها من محاولات طمس الهويّة العربية والإسلامية

باستهداف اللّغة والدّين والاستيلاء على الأوقاف والمساجد والمدارس القرآنية والكتاتيب وتحويلها إلى كنائس، إلى جرائم التهجير والتعذيب والاعتقال والقتل والإبادة الجماعية والجرائم ضدّ الإنسانية عبر استراتيجية الحرب الشاملة وسياسة الأرض المحروقة، إلى أزمة الدّيون على فرنسا قبل 1830م والتي تقدّر بنحو 28 مليون فرنك ذهبي فرنسي، وهو مبلغٌ خياليٌّ في القرن التاسع عشر والتي لم تُرجعها إلى الآن، إلى نهب خزينة الدولة الجزائرية من الأموال والكنوز بخمس سفن محمّلة في الأشهر الأولى للاحتلال ونهب المخطوطات والأرشيف والوثائق، إلى دماء الثورات الشّعبية وجماجم قادتها في (متحف الإنسان) بباريس منذ 1849م، إلى الأرقام الصّارخة عن التجنيد الإجباري للجزائريين في الحرب العالمية الأولى سنة 1914م لنحو 173 ألف، مات منهم 25 ألفا وجُرح 50 ألفًا، والتجنيد في الحرب العالمية الثانية سنة 1939م لنحو 120 ألف، وقد قُتل نصفُهم، إلى لعنة جرائم 8 ماي 1945م إذ استشهد في يومٍ واحدٍ أكثر من 45 ألف شهيد، إلى 1.5 مليون شهيد يصرخ في الوجه القبيح لفرنسا خلال الثورة التحريرية من 1954 إلى 1962م، إلى الذكرى السّوداء يوم 17 أكتوبر 1961 بنهر السّين بباريس كوَصْمة عارٍ في جبين فرنسا باستشهاد 1500 جزائري و800 مفقود وآلاف المعتقلين، إلى المحطة السّوداء يوم 13 فيفري 1960م لأكثر من 17 تجربة نووية، أشهرها (اليربوع الأزرق) برقان بولاية أدرار، والتي ذهب ضحيتها زهاء 42 ألف شهيد، ولا تزال آثارُ جرائم الإشعاعات النووية تتسبّب في العاهات والتشوّهات على الإنسان والحيوان والبيئة إلى الآن، إلى ملفّ الانتهاكات والمفقودين خلال الثورة التحريرية.. وغيرها. وقد اعترف المؤرّخ الفرنسي (جاك جوركي): (أنّ الفرنسيين قَتلوا قرابة 10 ملايين شهيد جزائريّ منذ الاحتلال سنة 1830م إلى غاية الاستقلال 1962م.).

ومع فظاعة هذه الحِقبة الإجرامية والحقد الفرنسي الصليبي الأسود، فقد تجرّأت بفكرها الكولونيالي على محاولة تلميع صورتها التاريخية القبيحة البائسة، إذ عمد البرلمان الفرنسي يوم 23 فيفري 2005م إلى سنّ قانون تمجيد الاستعمار، واعتبار ما قامت به فرنسا في شمال إفريقيا والجزائر “أفعالاً إيجابية”، بل وينصّ في إحدى مواده أن تتضمن البرامج الدراسية الإشادة بهذا “الدور الإيجابي والحضاري”؟! إنّ ما نصّت عليه اتفاقيات القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وأعراف الحرب من مبادئ، ومن أهمها: حماية المدنيين وغير المدنيين، وحماية واحترام الأعيان المدنية، وكذا العمل على تطبيق مبدأ عدم جواز الإفراط في استعمال القوَّة، وكذا الانتهاكات المرتكبة ضدّ الفئات المحمية بموجب قواعد القانون الدولي الإنساني من المدنيين والأسرى والأعيان المدنية، وكذلك الاستعمال غير المشروع للأسلحة المحظورة دوليًّا، مثل الأسلحة الحارقة والألغام المضادّة للأفراد والأسلحة البيولوجية والأسلحة النّووية.. وغيرها تجعل الانتهاكات التي ارتكبتها فرنسا في حقّ الجزائريين وممتلكاتهم وأعيانهم المدنية أثناء فترة

احتلالها من 1830م إلى 1962م جرائم دولية بامتياز، تدخل ضمن الأفعال المشكّلة لجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الإبادة، والتي لا يمكنها أن تسقط بالتقادم طبقًا لاتفاقيات جنيف الأربع وبرتوكولاتها، وكذا اتفاقية منع وقمع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948م، واتفاقية عدم سقوط الجرائم ضدّ الإنسانية لسنة 1968م. وهو ما يجعل فرنسا الحالية تتحمّل المسؤولية التاريخية والأخلاقية والسّياسية والقانونية والمادّية عن تلك الجرائم، وهو ما يفرض عليها وجوبًا اليوم وغدًا: الاعتراف بها والاعتذار عنها والتعويض عليها. كلُّ تلك الجرائم الصّارخة في وجه التاريخ والنّاطقة في وجه الإنسانية تجعل كُرْه فرنسا عقيدةً جزائرية، تلهِب مشاعر الجزائريين وتفجّر ثورتهم المستمرّة ضدّها: سياسيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا ولغويًّا إلى يوم الدّين، وقد قال الشّيخ عبد الحميد ابن باديس: (إنّ هذه الأمّة الجزائرية الإسلاميّة ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت)، ويقول الشيخ بوعمامة: (إذا سمعتم رنين الرّصاص في قبري بعد مماتي فاعلموا أنّني لا زلت في حربٍ مع فرنسا)، وقال الشيخ الطيّب العقبي: (علّموا أولادكم أنّ كُرْه فرنسا عقيدة)، وقال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: (علّموا أولادكم كره فرنسا، فوالله هي عدوّةٌ لكم، وهي مصمّمة على محوِكم ولو بقيتم ألف سنة)، ويقول أيضًا: (فرنسا تراكم عدوًّا لها، وترى نفسها عدوًّا لكم، ولو سألتموها بعد ألف سنة لوجدتم أنّ هدفها واحد: محوَ هويتِكم ودينِكم)، ويقول الشيخ العربي التبسي: (مَن عاش فليعش عدوًّا لفرنسا، ومَن مات فليحمل معه عداوتها إلى قبره)، ويقول الرّئيس الرّاحل هواري بومدين: (بيننا وبين فرنسا أنهارٌ من الدّماء وجبالٌ من الجماجم..)، ويقول: (إذا رأيتم فرنسا راضيةً عن الجزائر فذلك يعني أنّ أمرًا يحدث في الجزائر ليس على ما يرام).

مقالات ذات صلة